"جان جاك روسو"من المفكرين الأحرار الأفذاذ، دعاة الحق والعدالة وانتصار الحرية والمساواة والتآخي بين الشعوب. يتوخى "روسو" إرساء أسس الحياة السليمة التي تبنى عليها الأوضاع الاجتماعية في أي مجتمع ويستند في ذلك إلى قضية لا تخلو من خطورة وأهمية، إذ يرى أننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة المجتمع إلا إذا تعمقنا في نظمه السياسية، فكأننا نستشف طبيعة الشعب من طبيعة نظام الحكم الذي ارتضاه. والتجربة التاريخية لا تعني "روسو" بقدر ما يعنيه إرساء الأساس الأخلاقي الراسخ للحياة الإنسانية. وهنا يمكننا أن نربط بين موقف "روسو" من الحق، وبين موقف الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" من الواجب، فالواجب لذاته هو غاية الفعل الأخلاقي في نظر "كانط"، وهو أمر عام ومطلق لا يتعلق بغرض ولا يرتبط بمنفعة ولا يرتهن بملابسات قائمة. والإنسان في أدائه للواجب يشرع لنفسه وللإنسانية قاطبة في آن واحد. كذلك ينظر "روسو" للحق من حيث هو على إطلاقه، وعلى هذا فالمجتمع المدني ينهض على أساس الحق، فهو ثمرة التراضي الحر بين الناس. والناس في الحالة الطبيعية الأولى يستقل كل منهم بذاته ويعول عليها، فتكون هناك ذوات فردية لا تنصهر في ذات عامة، وحينئذ يبذل كل منهم جهوداً مضنية لافتقاره للتعاون مع غيره. فنهضة المجتمع وتطوره مرهونان بتضامن الأفراد وتكاملهم، أي بقيام المجتمع المدني كشرط لتحقيق السعادة والرفاهية. وعلى ضوء ذلك يتساءل روسو: كيف يمكن أن نصل إلى صورة من التوافق الاجتماعي تتكتل في إطارها قوى الجماعة من أجل حماية حقوق الأفراد وحقوق الجماعة معاً؟ إجابة "روسو" واضحة: لا يمكن أن ينهض مجتمع إلا على أساس الرضا والقبول، أعني أساس العقد الاجتماعي. فالعقد الاجتماعي له دلالاته العميقة في تفسير الأساس الذي تنهض عليه العلاقات المعقدة بين الناس، فلابد أن يكون هذا الأساس تراضياً وقبولاً، لا قسراً وقهراً، حقاً لا قوةً. فالعقد الاجتماعي هنا أشبه برمز يتوسل به "روسو" ليبرز التصور الأساسي الذي تنضج من خلاله طبيعة المجتمع المدني، والذي هو ثمرة إرادة أصحابه. فلكي يكون هناك حكم يلزم أن يكون هناك قانون يطاع. ولكي يطاع القانون ينبغي أن يكون محققاً لإرادة المجموع، ومعنى هذا أن يكون في طاعة الناس للقانون رضوخ لحكم إرادتهم. فالقانون هو صوت الإرادة العامة، وهذه الأخيرة هي دعامة السيادة. إن لكل فرد من أفراد المجتمع إرادته وحريته، وهم يختلفون ويتباينون، لكنهم يلتقون عند أمر واحد: أن يحكموا حكماً عادلاً يحقق لهم الكرامة ويكفل لهم العزة ويؤكد لهم المساواة. والسيادة هي ممارسة الإرادة العامة للحكم، بما ينجم عنه نتيجتان متلازمتان: أن السيادة للشعب بأسره، فلا يمكن أن تكون لفرد أو جماعة بل تتمثل في الأمة كلها. وأن سلطة السيادة لا تختص برعايتها أشخاصاً معينين بل تنصب عنايتها على المصلحة العامة التي تهم المواطنين جميعاً. ومشروعية السلطة السياسية مستمدة من كونها مستندة إلى قاعدة السيادة الشعبية. فمشروعية السلطة تنهض على انبثاقها من الشعب واستهدافها خيره وسعادته. ومن أجل إبراز هذه الفكرة كتب "روسو" ما كتب، فأرسى أساس الديمقراطية الصحيحة. عبدالعظيم محمود حنفي *كاتب مصري ينشر بالتعاون مع مشروع "منبر الحرية"