ثمة أخبار تمثل -في ذاتها- مشروع كارثة أو كوارث، وقد مرّت على العالم مئات من مثل هذه الأخبار، خصوصاً منذ نتائج الحرب العالمية الثانية، التي تجلى أكثر من طرف منها في ملايين الضحايا البشرية، وكان عدد كبير من هذه الأخيرة ممّن لم يشتركوا في الحرب المذكورة. ويقف المرء مذهولاً أمام هذه الواقعة، إذ، كيف يحدث ذلك، ويمر دون عقاب لمسبِّبيه أو دونما مساءلة تاريخية لهم. تكون بحجم الحدث؟ فلقد سوّق الإعلام الآن واقعة حدثت خلال العِقدين المنصرمين تتمثل في المعطيات الجديدة التالية منذ عام 1991. سقط على العراق ما يتجاوز خمسة وخمسين مليوناً من القنابل العنقودية التدميرية! وقد قدمت وزارة البيئة العراقية بياناً بنسبة عدد السكان العراقيين إلى عدد القنابل المذكور. فاتضح أن عدد سكان العراق هو في حدود 30 مليوناً، كان قد هاجر منهم أربعة ملايين منذ عام 2003، بسبب الاحتلال الأميركي، مِما يعني - هكذا استخلصت الوزارة المعنية- أنه يوجد الآن في أرض العراق من القنابل العنقودية ما يصل عدده إلى ضعف عدد المواطنين العراقيين الذين بقوا على قيد الحياة. ومن المذهل والمرعب أن يصرّح الطبيب عمر الكبيسي، المدير العام السابق في وزارة الصحة العراقية بأن هناك إحصائيات تؤكد أن المناطق التي تحتوي حالياً على ألغام وقنابل لم تنفجر، تعادل مساحة لندن العاصمة وضواحيها. أضِف إلى المأساة أن السيد الكبيسي المذكور أكد أن المناطق التي تعج بقنابل وألغام في العراق، ما يزال يوجد تحفُّظ من قِبل السلطات العراقية المعنية على البدء بقيام الفرق الدولية المختصة بما يلزم لإزالتها مع الأخطار المحدقة بواقع الحال المعنِي هنا، وذلك بحجة أن وراء حظرها ذاك تقف أسباب أمنية كبرى، إضافة إلى أن لديها (أي السلطات المذكورة) فِرقاً خاصة تقوم بهذا العمل الشديد الحساسية، لكن دون أن يتجلى ذلك على صعيد الواقع. على ذلك النحو المعقد والمفعم بتداخلات كثيرة كثرة الأطراف الفاعلة فيها، بحق وبدون حق، وبدلاً من التَّنبه إلى ضرورة البتّ بذلك وبغيره في مناطق أخرى غير العراق وعلى جناح السرعة، التي تمثل هنا أحد عوامل الإنتاج فإننا نسجل أحداثاً جديدة أخرى. فبسبب ممارسات بيئية عابثة وأخرى تدميرية إنسانية بفعل الحروب والإهمال المقصود وغير المقصود، يمكن -إذا ضممنا إليها عوامل أخرى من عوامل البؤس والاضطراب في العالم- أن نطرح سؤالاً يعادل بخطورته البيئة الإنسانية ما يحدث في ذلك العالم: وماذا بعد؟ إنه سؤال خاص مرعب، يُظهر تقاعس البشرية حيال ذلك كله. ومن شأن ذلك أنه قد يعني أن معظم أطراف الصراعات المحتدمة راهناً في عالمنا تفتقد قدراً أساسياً من المصداقية. فهي غدت -في كثير من تجلياتها- ذات أبعاد "غير مثمرة بالاعتبار التاريخي الاجتماعي". فمع اتساع دائرة الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية وغيرها، نجد اللاعقلانية والظلامية تفعل فعلاً كبيراً في حياة الناس، جنباً إلى جنب مع خطّ متصاعد من اليأس والعبث والتشاؤم وتضاؤل آفاق وكُوى التقدم، لكن أبداً دون الاعتقاد بحلول شتاء طويل يخرجنا من التاريخ! د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق