يريد الرئيس الأميركي أن يتعاون مع خصومه "الجمهوريين" في العمل التشريعي، وليس مؤكداً أنهم يبادلونه النية والطموح نفسيهما، فالحملة الانتخابية الأخيرة فاضت بنكهة الرغبة في إطاحته، إذ بالغت في الشراسة، كما في شخصنة الخصومة سواء في إثارة "إسلامية" باراك (حسين) أوباما، وهي متخيلة لكنها مفيدة للتضليل، أو في افتعال التشهير بأصوله، وهذا غير مألوف في بلد كبير يفاخر بأنه مصهر للأصول وتمازجها. وعلى رغم أن الخطاب السياسي الجمهوري، وبالأخص عند "حزب الشاي"، تأرجح عند خط أحمر وهمي، إلا أن الفهم العام والمزاج الشعبي على الأرض اقتربا كثيراً من اختزال الصراع بأنه بين الأبيض والأسود. لا أحد يصوّره الآن بهذه الصورة الفجة، لكنه في السنتين المقبلتين قد ينزلق إلى لغة أكثر وضوحاً. ويعتمد الخصوم على أن أوباما يحاذر شخصيّاً ترجيح مثل هذا الاتجاه ليس لأنه يتعارض مع منطلقاته وإنما لا يريد أن تترافق نهاية ولايته الأولى -وربما الأخيرة- أو حتى إعادة انتخابه لولاية ثانية -إذا أسعفه الخط- بمثل هذا الواقع الصراعي الذي سيعوّق عمله في أي حال. تاريخيّاً، وعلى رغم التباينات الموضوعية، كان هناك دائماً ما يقرّب أكثر مما يباعد بين سود أميركا ويهودها، وحتى عندما لا يدخل الجانبان في مواجهة فإنهما يحرصان على علاقة مصالح متبادلة. كانت تشكيكات اليهود في أوباما، قبيل انتخابه، أثارت تساؤلات لدى السود ما لبثت أن تبددت مع نتائج التصويت، إذ حصد أوباما غالبية أصوات اليهود الذين يرجّح أنهم أيدوه لعلمهم أنه سيفوز حتى من دون تأييدهم، كما أن اللوبي اليهودي وجد نفسه أمام ظاهرة شعبية جارفة يستحسن الانخراط في تأييدها طالما أن الخيار الآخر لم يكن مجديّاً. لكن الشحن السياسي والعمل المنهجي لإفشال أول رئيس أميركي غير أبيض اتخذا أخيراً منحى متعمداً غير معهود، فعلى رغم أن المعترك السياسي في واشنطن يجيز أحياناً كل أنواع الضربات، إلا أن الجميع يحافظ على احترامه للمصلحة العامة تجنباً لخسائر قد يجنيها من تجاهله لها. وفي الحملة الانتخابية الأخيرة لم يواجه أوباما "الجمهوريين" واللوبي اليهودي فحسب، بل إن بعض أعضاء حزبه "الديمقراطي" انساق أيضاً في مؤثرات "اللوبي" إياه. سيسعى "الجمهوريون" إلى عدم تكرار تجربة بيل كلينتون، الذي اضطر في عام 1994 إلى "التعاون" مع كونجرس مناوئ، ما لم يحل دون تمكنه من الفوز بولاية ثانية عام 1996. الأمر مختلف هذه المرة، وعلى رغم وجود ضرورات للعمل الإيجابي مع الرئيس في مواجهة متطلبات الأزمة المالية والاقتصادية، إلا أن المقايضة ستتم على حساب السياسة الخارجية التي كان أوباما يوليها اهتماماً خاصّاً وقد لا يسعه ذلك في المرحلة المقبلة. سيحرص "الجمهوريون" على ألا يحقق أوباما أي نجاحات واضحة في مسائل الداخل، وهي المعيار الحقيقي لإعادة انتخابه، فضلاً عن السعي إلى إفشال مبادراته الخارجية وحرمانه من أي انتصار جوهري مدوٍّ يعوّض به نصف الفشل في الداخل. ولأجل ذلك، قد لا يكون العراق عنصراً مساعداً على رغم تصاعد الانتقادات لإخلاء الساحة لإيران، لكن إخفاقات الوضع الأفغاني تفي بالغرض بالنسبة إلى "الجمهوريين". في الوقت نفسه قد لا تكون عرقلة معاهدة "ستارت" مع روسيا أو تأخيرها، فضلاً عن الضغط في الملف الكوري الشمالي، من الأدوات الناجعة لجعل الفشل مدويّاً. لذلك سيكون ملف الشرق الأوسط الساحة الرئيسية للمواجهة، خصوصاً أن نتنياهو وحكومته أنجزا الكثير في هذا المجال، إذ تقلبت العلاقة بين الرئيس ورئيس الوزراء الإسرائيلي من التوتر إلى انعدام الثقة فبناء الثقة فانعدامها مجدداً، ومن الضغط الذي مارسه أوباما إلى الصد الذي نجح فيه نتنياهو ثم حوّله إلى عملية ترويض لأوباما لا تزال جارية، لكن نجاح الإسرائيلي فيها سيعني تلقائيّاً الدخول في مرحلة الإفشال النهائي لأوباما وجعله عاجزاً عن أي مبادرة خلال السنتين المتبقيتين من ولايته. وعلى رغم أن الرئيس الأميركي يدرك أبعاد التكتيك الإسرائيلي، إلا أنه يملك أيضاً وسائل صدّها، لكن ذلك يتوقف على حساباته المستقبلية والحدود التي يمكنه التحرك فيها.