العالم العربي رقعة جغرافية لها حدود طبيعية معروفة: الخليج العربي، والمحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي والصحراء الكبرى. ويعاني هذا الوطن مشاكل على المستويات الثلاثة المحددة للهوية: المسألة السياسية، والمسألة الإثنية، والمسألة الثقافية؛ فالعالم العربي تخترقه دول مختلفة لها أنظمة سياسية متعددة، وهي ليست موطناً لجماعة إثنية واحدة بل لعدة مجموعات لها مشارب إثنية متباينة، كما أن الوطن العربي يعرف سياسات ثقافية مختلفة من نظام تعليمي، وتوجيهات ثقافية وإيديولوجية وبرامج خاصة؛ ولكن تبقى الثقافة العربية هي العامل الأساسي بل الوحيد للشخصية العربية والوحدة العربية؛ فهناك مقومات عديدة وأساسية للوحدة العربية كاللغة والدين والتاريخ، ولكن هذه المقومات، كما أشار إلى ذلك المرحوم محمد عابد الجابري، هي مجرد عناصر في كل، وليس هذا الكل شيئاً آخر غير الثقافة العربية فهي في الوقت نفسه لغة ودين وماضٍ مشترك ومستقبل مأمول، ومن هنا وظيفتها التاريخية أو وظيفتها التوحيدية، وهي هويتها نفسها، لا بل ماهيتها نفسها. فالثقافة العربية هنا هي مقوم من مقومات مفهوم الوطن العربي على رغم التباين اللغوي الاشتقاقي الذي نلمسه في لغتنا العربية بين مفهوم الوطن كرابطة جغرافية مادية (الأرض) والأمة كرابطة روحية اجتماعية (كالأصل والدين). فعيد الأضحى المبارك الذي يحتفل به اليوم الملايين من البشر خاصة أهل المشرق العربي، وغداً عندنا في بعض دول المغرب العربي، من بين ما يجمع بين الأقطار العربية بصورة متواصلة، في الماضي كما في الحاضر(الرابطة القطرية) وبين المسلمين كلهم في أنحاء المعمور (الرابطة الروحية)، وليست السياسة أو الاقتصاد أو برامج التعليم هي التي تجمعهم على شاكلة بعض الأقطار الأخرى. وإذا فهمنا هذا الكلام، فإن الحديث عن خصوصيات مغاربية وأخرى مشرقية أمر مشروع ومؤكد، ولكن ليس من قبيل الاختلاف الجوهري الذي يحدث تباعداً وفصلًا بين محددات الشخصية العربية المشرقية والشخصية العربية المغربية، وهي ليست أوسع اختلافاً وأكثر تبايناً من الاختلاف بين المغاربة والجزائريين والتونسيين أنفسهم أو بين الإماراتيين والقطريين والكويتيين مثلاً. وكثيراً ما نسمع من طلبتنا في الجامعات وزملائنا في العمل أنهم يعرفون كل شيء عن أهل المشرق، وهؤلاء لا يعرفون شيئاً عن فاس أو الرباط أو قسطنطينة أو تونس أو طرابلس ولا عن عاداتهم أو همومهم، وهذا كلام صحيح لم يبَن على فراغ ولكن أيضاً لا ينبغي المبالغة فيه أو رده إلى إرادة تجاهلية دفينة من إخواننا في المشرق بقدر ما ينبغي رده إلى كون أحداث المشرق العربي السياسية الساخنة تشغل بال الخاص والعام في كل الوطن العربي، وتجعل التلميذ في أقصى بوادي المغرب والجزائر يعي اليوم أن العراق يعرف حرباً داخلية دامية وحكومة توقفت لأشهر معدودات، وأن هناك تفاقماً خلافيّاً بين فريقي الأكثرية والمعارضة داخل الحكومة اللبنانية حول المرجعية القضائية للنظر في ملف ما يسمى بشهود الزور، وأن القرار الاستيطاني الإسرائيلي من بين أسباب توقف المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن التلميذ بل وحتى المثقف العادي من دول المشرق العربي قد يجهل ما وقع مؤخراً في مدينة العيون المغربية وظاهرة الإرهاب التي تكاد تصبح واقعاً في الحياة اليومية لكل الموريتانيين، لأنها أحداث سياسية ثانوية مقارنة مع الأحداث الساخنة التي تقع في منطقة المشرق العربي، فالمنطقة على جيرة مباشرة مع الكيان الصهيوني وتخترقها ويلات الحروب والتأثيرات الإقليمية والدولية بسبب حساسيتها، كما أنها تتوفر على مخزون هائل من النفط تحت صحاريها مما يجعلها قبلة لحضور إعلامي عربي ودولي قل نظيره، ويكفي أن تتصفح كل الجرائد والمجلات الدولية الأكثر قراءة فتجدها تخصص أكثر من 90 في المئة، عند تناولها للحدث العربي، لمنطقة المشرق. ثم هناك طغيان اللغة الأجنبية الفرنسية كلغة ثانية على معظم بلدان المغرب العربي خلافاً لدول المشرق العربي التي تنتشر فيها اللغة الإنجليزية بسبب قوة العامل الاستعماري الفرنسي والإنجليزي الذي ترك بصماته على الدول المستعمرة، وللأمر تأثيرات إلى يومنا هذا على البرامج التعليمية والثقافية وأنماط الحياة بل وحتى على منطق تفكير النخبة الجامعية والحاكمة التي تخرجت إما من الجامعات الفرنسية أو الجامعات الأنجلوساكسونية، ونلمس لمس اليد في دولنا المغاربية وللأسف الشديد ازدواجية لغوية ثقافية متحيزة جدّاً للغة الفرنسية وثقافتها، مما يسهل عملية استعداد الشعوب نفسيّاً وثقافيّاً لقبول استمرار الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي وكل تبعاته. ومعلوم عند علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا أن لغة المجتمع تؤثر تأثيراً كبيراً في تشكيل المعالم المميزة للشخصية القاعدية لأفراد المجتمع، وتساعد هذه النظرية على تفسير نماذج الشخصيات القاعدية لمجتمعات متقاربة جغرافيّاً كما هو شأن دول المغرب ودول المشرق. إذن بين دول المشرق والمغرب تعدد واختلاف يجمعها، ويحتويها نزوع دائم إلى الوحدة والائتلاف يستمد وجوده واستمراريته وقوته من الوظيفة التوحيدية للثقافة العربية كلغة وكدين وكماضٍ وحاضر مشترك ومستقبل مأمول، وعيد الأضحى المبارك الذي يحتفل به اليوم وغداً كل دول المشرق والمغرب يدفعنا للتذكر، والتذكر يغذي المشاعر ويدفع بالضرورة نحو المشاعر العملية، فالواقعة التي حدثت قبل أربعة آلاف سنة عندما هم نبي الله إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام، وأسلما وتله للجبين، وفداه الله بذبح عظيم، لا تعني فقط قوة اليقين وصدق الإيمان من النبيين، فمعنى ذلك ألا تضحية بالإنسان بعد اليوم، وذبح الأضحية يبقى رمزاً لإيقاف عمليات التضحية بالإنسان الذي له حرمته، والإرهاب الذي يمارسه اليوم بعض أبناء ثقافتنا العربية في العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها، يعتبر مذبحاً أعظم للقرابين البشرية، لعل الفائدة الوحيدة فيها، في هذا اليوم المبارك، أن تتوقف ولا تعاد، وعيد مبارك سعيد لأهل المشرق من أهل المغرب.