أقيم لغازي حفل تأبين في أربعينيته بلندن حيث عاش سفيراً لسنوات. أقام الحفل أصدقاؤه ومحبوه، وتحدث فيه ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز عبر رسالة مكتوبة تمّت قراءتها في الحفل، وتبرّع فيه ملك البحرين بأرض لعائلة غازي لإقامة متحف دائم له يطلّ على السعودية عشقه الأول، وعلى البحرين عشقه الثاني في ذات الوقت، وقد تحدّث كثيرون في ذلك الحفل كما يليق بالراحل الكبير من سياسيين وديبلوماسيين وإعلاميين ومثقفين إما عبر الحضور المباشر وإما عبر التسجيلات التلفزيونية أو الخطابات المكتوبة. خاض القصيبي كثيراً من المعارك في حياته، مرةً مع البيروقراطية الحكومية في تأسيسه لسابك، التي حكى معاناته معها في كتابه "حياة في الإدارة"، كما خاض معارك في وزاراته بعدها، ثم خاض برودة الدبلوماسية حين كان سفيراً في البحرين وبريطانيا، وقبل هذا خاض معركة الفساد مع بعض زملائه حين كتب في الثمانينيات قصيدته ذائعة الصيت، والتي نشرت في جريدة الجزيرة. وفي مقتبل التسعينيات وبعد احتلال العراق للكويت خاض معركة كبرى ذات توجهين: الأول: مع بقايا القوميين العرب في زاويته الشهيرة "في عين العاصفة" التي كانت تنشر بصحيفة الشرق الأوسط وقد ناطح فحولهم وواجه كبارهم وعلى رأسهم محمد حسنين هيكل، وكم نتمنّى لو أعادت صحيفة الشرق الأوسط إصدار تلك المقالات كما كتبت كما هي بتواريخها وعناوينها في كتيب مستقلٍ توثيقاً لمرحلة مهمةٍ من تاريخنا الحديث عربياً وسعودياً، ولا يضير أن يكون فيها نقدٌ لبعض مواقف السياسيين أو المثقفين العرب الكبار الذين أخطأوا التقدير حينذاك، ثم عادوا لاحقاً لرشدهم فغيّروا وبدّلوا، فالخطأ ليس عيباً، ولكن العيب هو الإصرار عليه بعد تبيّن الخطأ. لقد كان للقصيبي في نقد هذا التوجّه ومناقشته مواقف جديرة بالتأريخ والحفظ. أما التوجه الثاني: فكان مع تيارات الإسلام السياسي المتمرّدة حينها، والتي كانت تعرف بالصحوة الإسلامية، وقد ناقش رموزها في السعودية وردّ عليهم بكل طريقةٍ تمكّن منها حينذاك، فكتب في زاويته الصحفية الآنفة الذكر ردوداً عليهم، كما كتب بحوثاً مستقلةً في الردّ عليهم جمعها لاحقاً في كتابه "حتى لا تكون فتنةً" الذي ناقش فيه أبرز الرموز الصحوية حينها كسلمان العودة وناصر العمر وعائض القرني وغيرهم، كما استخدم "الكاسيت"، الذي كان آلتهم المفضلة في ذلك الوقت فأصدر بصوته معارضته لهم، ولئن لم تحظ كاسيتاته بذات الشعبية، التي كانت تحظى بها كاسيتات الرموز الصحوية فذلك بحكم واقع المرحلة التاريخية وقواعدها، ولا زلت أذكر ردوده عليهم بصوته الرخيم –الذي زعم هو ساخراً أنه صوت قبيح- وهو الزعم الذي فرح به بعضهم في الردّ عليه من خلال التأكيد على قبح صوته. ولازلت أذكر تلك الردود وكيف كان يخاطبهم بقوله يا أخي سلمان العودة، يا أخي عائض القرني، يا أخي ناصر العمر. لم يقابل رموز الصحوة نشاطه آنذاك بالصمت بل لقد ردوا عليه ردوداً "كاسيتاتية" ومكتوبة: من الردود الكاسيتاتية محاضرة سلمان العودة بعنوان "الكاسيت: ماله وما عليه"، وكذلك عائض القرني بكاسيت عنوانه "سهام في عين العاصفة"، ومن الردود المكتوبة: ردّ محمد سعيد القحطاني بعنوان "ويكون الدين كلّه لله" ورد وليد الرشودي وغيرهما. من أبرز ما ميّز غازي القصيبي كإنسانٍ في حياته هو تنظيمه الصارم لوقته ما مكّنه من القيام بمهام سياسيةٍ ووزاريةٍ وتنمويةٍ، مع إنتاجٍ غزيرٍ شعرياً وأدبياً وروائياً –ربما جلب عليه بعض الانتقادات- ولكن فوق هذا كلّه وربما كانت الميزة الأهم لغازي هي اجتراحه لما يمكن تسميته بـ "البوح السياسي العاقل" بمعنى أنّ الشؤون السياسية داخلياً وخارجياً ليست كلها أسراراً محضةً ولا تابوهاتٍ مغلقةٍ، بل فيها الكثير مما يمكن البوح به ونشره للناس، وتوثيقه بالكتابة لتستفيد منه الأجيال. لقد تعرّض غازي في كتبه لعددٍ من الأسماء الرسمية ذات المناصب، إيجاباً وسلباً، ولكن المشكلة أنّ أحداً منهم لم يردّ عليه، وحافظوا على كونهم صناديق سوداء مغلقة، لا سبيل إليها، فبقيت رواية غازي للأحداث والأخبار والمواقف والرؤى هي الشاهد والحاكم الوحيد على فتراتٍ مهمةٍ من تاريخنا الحديث. ظلّ غازي أميناً على نهجه وصراحته حتى آخر أيامه، ففي نهايات حياته التي كان يعلم دنوّها أصدر ثلاثة كتب: أولها: مترجم، وهو "المؤمن الصادق"، وثانيها: توثيقي، وهو "الوزير المرافق" الذي يغطي جوانب خفية من سيرة ذاتية حافلة سعى لتغطيتها من قبل في أكثر من كتابٍ، كحياةٍ في الإدارة التي يوثق فيها لحياته الإدارية وقبلها سيرة شعرية ونحوهما، وثالث الكتب وآخرها –حتى الآن- "أقصوصة الزهايمر"، التي تعتبر امتداداً لإصداراته الروائية السابقة كالعصفورية و"أبي شلاخ البرمائي" و"سبعة" و"حكاية الجنية" و"دنسكو" ونحوها. لقد كان غازي رجالاً في رجلٍ، ومؤسساتٍ في شخصٍ، وجماعاتٍ في فردٍ، ولقد كان في منصبه الأخير (وزيراً للعمل) في السعودية يسعى للسعودة بقضّه وقضيضه، وبكل ما أوتي من قوة، وما أعطي من مكانة، غير أن فلسفته تلك لم ترق لكثيرين، فحاربوه وأفشلوا خططه ورؤاه –وربما كان بعضهم محقاً- ولكنّ بعضهم اشتد انحيازه ضدّ هذا التوجه حتى فضّل المستثمر الأجنبي على السعودي! وتلك قصة أخرى. نحن نحب غازي ولكن هذا لا يعني أن نقرّ كل قراراته، وهو أوّل من يشجعنا على هذا، فنقد بعض رؤاه ومواقفه منهج أرتضاه هو وأقره، ما يدل على وعيه وتجاوزه لشخصه ومرحلته، وفتحه الأبواب لكل إداريٍ أو ناقدٍ أو باحثٍ، ليقدم ما يظنه الأفضل ويسعى لتحقيق ما يحسبه الأنفع والأكمل. تبقى تساؤلات مهمةٌ في هذا السياق وهي أننا مع محبتنا لغازي، فهل يجب أن نغلق اقتصادنا لأجل رأي رآه؟ وهل يجب أن نحجب الاستثمارات الأجنبية التي تنفع اقتصادنا لقرارٍ اتخذه؟ أم يجب أن نراعي حاجاتنا الداخلية وعلاقاتنا الاقتصادية مع العالم في الآن ذاته؟ فنسعى لجلب الاستثمارات الأجنبية لدعم الاقتصاد الوطني وخلق المزيد من فرص العمل للكثير من شبابنا الذي يعاني من بطالة مستحكمة باسطة أجنحتها على الأكثرية. إنّها –دون شكٍ- تساؤلاتٌ مشروعةٌ إذا أردنا أن نصل لحل المعضلة الكبرى ألا وهي هل نحن ننتمي للعالم القديم أم للعالم الجديد؟ هل نحن –في هذا السياق- ننتمي لفكر غازي المتجاوز والمتعدّي أم لأفراد قراراته؟ وبالتأكيد فإنّ انتماءنا للعالم الجديد وانخراطنا فيه سيسعد غازي وأمثاله وإن خالف بعض قراراته أو رؤاه. فليس على دعاة التجديد حكم إلا الإنجاز. بكلمة، لقد كان غازي محبوباً بكل حسناته وسيئاته، وصوابه وخطئه، فليس في البشر كامل، ولا منهم معصوم، ولئن كان غازي يستحق أن نرميه بالورود في قبره فلنا أن نقول لخصومه من كان منكم بلا خطيئةٍ فليرمه بحجر.