لا يكفي التعاطف الوجداني الحادث الآن بين الأتراك والعرب. يشتد أو يضعف طبقاً لسياسات النظم الحاكمة. إنما المقارنة بين التجربتين في العصر الحديث تفيد تعلم الثورة العربية التي قد لا يبقى منها شيء من التجربة التركية التي تنمو وتزدهر وتؤثر على الثورة العربية. وقد تحتاج المصطلحات إلى تدقيق: الثورة التركية والثورة العربية أم التجربة التركية والتجربة العربية، أم مسار الثورة التركية على مدى تسعين عاماً ومسار الثورة العربية على مدى ستين عاماً. فقد سبقت الثورة التركية الثورة العربية بثلاثين عاماً. وتعني الثورة العربية هنا الثورة المصرية التي كانت نموذجاً للثورات العربية في العراق وليبيا واليمن على رغم أسبقية الثورة العربية في سوريا لها منذ 1949 بثلاث سنوات. ومع ذلك يمكن مقارنة التجربتين التركية والعربية في العصر الحديث لرصد أوجه التشابه والاختلاف بينهما. فكلتاهما علامتان بارزتان في التاريخ الحديث للعرب والأتراك، إيجاباً أم سلباً. انقلبت الثورة التركية على الخلافة العثمانية في 1923 كما انقلبت الثورة العربية على الملكية والرأسمالية في 1952. كانت تركيا محتلة من اليونان، والجيش اليوناني على أبواب أنقرة كما كان الجيش العثماني في القرن التاسع عشر على أبواب فيينا. وكانت مصر محتلة من بريطانيا، والجيش البريطاني على ضفاف القناة، وقاعدته في التل الكبير على بعد سبعين كيلومتراً من القاهرة. كانت الثورة في تركيا ومصر عنوان الحداثة، والانتقال من عصر إلى عصر، من العهد البائد إلى العهد القادم. وكان أثر الثورة التركية على الثورة المصرية أثراً إيجابيّاً، لا فرق بين كمال أتاتورك وجمال عبدالناصر، بين كمال وجمال. بل إن كثيراً من الأسر سمت أبناءها بأسماء أبطال التحديث في تركيا مثل أنور باشا الذي على اسمه سُمي رئيس الجمهورية السابق في مصر، أنور السادات. ووجد لها علي عبدالرازق تبريراً شرعيّاً في كتابه "الإسلام وأصول الحكم". وقامت كل ثورة بحركة تصحيح، الثورة التركية في صمت وهدوء تأدى إلى انتخاب "حزب العدالة والتنمية" بعد أن تعلم من حزب "الرفاه" بقيادة أربكان أن التصحيح لا يكون زعاقاً ولا لفظيّاً ولا انكساراً في مسار الثورة. في حين قامت الثورة في مصر بما يسمى حركة تصحيح في 15 مايو 1971، من الثورة إلى الثورة المضادة، وبتغيير سياسات الثورة إلى نقائضها بفعل رجل واحد كان حينها في قمة السلطة، ودون تأييد شعبي، وبمباركة إعلامية، والإعلام في يد الدولة، وباعتقال وسجن ومحاكمة رموز الثورة الذين قاموا بالإعداد لحرب أكتوبر 1973 عسكريّاً وثقافيّاً وإعلاميّاً بعد هزيمة يونيو 1967. انقلبت السياسات مئة وثمانين درجة، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ومن التحالف مع الشرق إلى التحالف مع الغرب، ومن اللاءات الثلاثة، لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف بإسرائيل إلى صلح ومفاوضة واعتراف، ومن تحديد الأسعار والإسكان وتدعيم المواد الغذائية إلى إطلاق حرية الأسعار والإيجار، ومن التصنيع والتصدير إلى الاستيراد والاستهلاك. كان التصحيح التركي إلى أفضل، تجاوز ردود أفعال الثورة التركية، وكان التصحيح في الثورة المصرية إلى أسوأ، الانقلاب على مكتسبات الثورة. بدأت الثورة التركية بالقطيعة مع الماضي، الدين واللغة والثقافة، وقلدت التجربة العلمانية الغربية بحذافيرها. ونسيت عظمة تركيا في الماضي ونشرها الإسلام في أوروبا الشرقية، بلاد البلقان، ودفاعها عن الدول الإسلامية ضد الاستعمار الغربي للمشرق العربي والآسيوي. ثم صحح الأتراك مسارهم وأعادوا ربط تجربتهم بالماضي. وقطعت الثورة المصرية أيضاً مع الماضي في 1952. وحلت الأحزاب وفي مقدمتها حزب "الوفد". وحكمت في فراغ. ولم تستطع أن تؤسس تنظيماً سياسيّاً بديلاً. اختارت الثورة التركية في بدايتها العلمانية ثم حدث رد الفعل بعد ذلك بنصف قرن في حزب "الرفاه" بقيادة أربكان. ثم ظهر الطريق الثالث في "حزب العدالة والتنمية"، تحقيق القيم العلمانية من خلال الموروث الثقافي. والتجربة المصرية أيضاً، وذرّاً للرماد في العيون وضعت الشريعة الإسلامية كأحد المصادر الرئيسية للتشريع. واستمر الأمر كذلك في الثورة المضادة ورفع شعارات الإسلام مثل "العلم والإيمان" وتدعيم الجماعات الأصولية لاستعمالها لتصفية الناصريين حتى انقلبت على النظام بعد معاهدة كامب ديفيد. واستمر استعمال الدين لتأييد السياسات المتبعة في اختيار السلام كخيار استراتيجي، والإسلام يدعو إلى السلام. وكثر مشايخ الفضاء عبر القنوات الإعلامية لملء الفراغ السياسي، والوقوع في فك الطائفية والهوية الدينية بعد أن ضعفت الهوية الوطنية. قام العسكريون بالثورة التركية من دعاة "تركيا الفتاة" والقومية الطورانية، وقام العسكريون بالثورة المصرية من "الضباط الأحرار". ثم صححت الثورة التركية مسارها بتحجيم دور العسكريين في السياسة، ومنع سياسة الانقلابات العسكرية، وجعل دور الجنرالات دوراً عسكريّاً صرفاً من أجل ترك الحكم للمدنيين. واستمر العسكريون في الثورة المصرية منذ بدايتها حتى نهايتها. ولا قوام لمجتمع بلا قضاء مستقل، فقامت التجربة التركية بإصلاح النظام القضائي ونظام المحكمة الدستورية العليا حتى يكون القضاء حكَماً عادلًا في الفصل بين السلطات. وفي التجربة المصرية تدخل النظام السياسي في القضاء على ما عرف بمذبحة القضاء أولاً ثم تدخلت الدولة في أحكام القضاء لأسباب أمنية على رغم قدرة القضاء على المقاومة مثل قرار منع الحرس الجامعي الدخول في الجامعات المصرية. وفي تصحيح مسار التجربة التركية تم اللجوء إلى الشعب والانتخابات النزيهة والبرلمان الذي يمثل إرادة الشعب، أغلبية جديدة وأقلية تعبر عن التجربة التركية القومية القديمة. وفي التجربة المصرية كان الحكم في البداية يعبر عن مصلحة الشعب تعبيراً مباشراً بقدرة الزعيم مع مجالس دستورية صورية، واستمر الأمر كذلك في التجربة المصرية، تزييف إرادة الشعب على رغم الانتخابات الصورية. وفي السياسة الداخلية اتبعت التجربة التركية سياسة التصنيع والتصدير وفي التجربة المصرية سادتها عقلية الاستيراد والاستهلاك. كان لدى تركيا مشروع تحديثي في بداية الثورة، واستمر هذه المشروع في صياغات جديدة طبقاً لتغير الظروف المحلية والإقليمية والدولية. وكان لدى الثورة المصرية مشروع تحرري قومي اجتماعي انقلب إلى مشروع مضاد بعد حرب أكتوبر 1973. ثم غاب المشروع والمشروع المضاد كلية إلى لا شيء، القُطرية أولاً. وحاولت دول عربية أخرى ملء الفراغ على رغم إمكانية مشروع نهضوي جديد. تنقصه الإرادة السياسية وإن توفر الخيال السياسي.