يبدو أن الأعضاء الجمهوريين بمجلس الشيوخ الأميركي كانوا قد صمموا على عدم إجازة معاهدة "ستارت" الجديدة في آخر جلسات الكونجرس بتشكيله الحالي -قبل الانتخابات- التي تعرف عادة بجلسة البطة العرجاء. فهناك منهم من يرفض أصلاً التصويت لصالح المعاهدة، ومن يعتقد بضرورة أن تكون للكونجرس الجديد كلمته في المعاهدة، وعليه فليس ثمة ما يبرر استعجال البت فيها. ثم هناك فئة ثالثة -من بينها جون كايل- لا تزال تتفاوض مع إدارة أوباما في عدة قضايا مثل تحديث الترسانة النووية الأميركية. وهؤلاء يحاولون التوصل مع الإدارة لأفضل صفقة ممكنة قبل تصويتهم في مجلس الشيوخ لصالح المعاهدة. ثم نصل إلى الفئة الرابعة والأخيرة، التي تحرص على حرمان الرئيس من تحقيق أي نصر تشريعي جديد، وهذا كل ما هنالك. وعلى رغم تفهمي وتعاطفي مع هذه الحجج -باستثناء الأخيرة منها- فإن مكمن خوفي هو أن يكون المشرعون الجمهوريون قد غابت عنهم ملامح الصورة الاستراتيجية الأكبر والأهم فيما يتعلق بأهمية إجازة هذه المعاهدة. وتتلخص هذه الصورة في أن معاهدة "ستارت" الجديدة لا تشكل أدنى خطر على الأمن القومي الأميركي، أيّاً تكن الأخطاء والثغرات التشريعية التي تضمنتها. وبالمقارنة فقد نصت معاهدات التحكم بالأسلحة النووية الثلاث السابقة -وجميعها تفاوض عليها وأقرها رؤساء جمهوريون سابقون- على خفض الترسانة النووية الأميركية مما يقارب الـ12 ألف قطعة نووية إلى ألفي قطعة فحسب. أما معاهدة "ستارت" الجديدة فتنص على خفض هذه الترسانة إلى 1550 قطعة. وبذلك فهي لن تسفر عن يوتوبيا عالم جديد خالٍ من الأسلحة النووية -كما يتهم الكثير من الجمهوريين أوباما- ولا تؤدي إلى نزع الأسلحة النووية وتجريد أميركا من ترسانتها الدفاعية كما يزعم البعض الآخر. وعلى عكس ذلك تماماً، فإن الامتناع عن إجازة المعاهدة، تترتب عليه ثلاث نتائج مؤسفة في الحقيقة. أولاها تعزيز موقف بوتين، وثانيتها إضعاف موقف أوباما خاصةً إذا ما أساءت موسكو السلوك، وثالثتها تحمل الجمهوريين لمسؤولية تاريخية عن خطئهم هذا، لاسيما إذا ما اتجهت العلاقات الأميركية- الروسية في اتجاه غير مرغوب. وعليه وفيما لو توترت علاقات واشنطن بموسكو أكثر مما هي عليه الآن -وهو ما أتوقعه وأرجح حدوثه- فلن تصعب علينا كثيراً معرفة الأسباب. وفي سياق متصل فقد بلغت ضغوط واشنطن على طهران ذروتها خلال موسم الصيف المنقضي، بإصدارها لقرار فرض العقوبات الدولية على إيران من قبل مجلس الأمن الدولي. وبالنتيجة فقد رفضت موسكو تسليم طهران نظام S-300 للدفاعات الجوية الذي كان متعاقداً عليه بينهما، علاوة على اتفاقها مع واشنطن في وقت سابق على السماح بنقل العتاد الحربي إلى أفغانستان عبر الأراضي الروسية. فهذه هي أولى ثمرات تحسن العلاقات بين موسكو وواشنطن وقد ظهر ذلك في الضغط الذي مارسته الإدارة على طهران. وهذا هو الجانب الملموس والمباشر لنتائج هذه الضغوط. أما نتائجها المعنوية غير المباشرة، فربما تمثلت في تعزيز موقف ميدفيديف، الذي يوصف بأنه إصلاحي مؤيد للحداثة، ويسعى -كما يقال- إلى مناهضة الأساليب القيصرية التي يتبعها شريكه بوتين. وحتى الآن تبدو العلاقات جيدة بين واشنطن وموسكو، غير أن من المتوقع لها أن تسوء وتتوتر أكثر في المستقبل القريب. وضمن ذلك، يتوقع أن تكون روسيا أقل تعاوناً مع واشنطن فيما يتعلق بممارسة المزيد من الضغوط على طهران. ذلك أن موسكو أعربت سلفاً عن عدم حماسها لفرض أي عقوبات إضافية، بينما تتهيأ واشنطن لتشديد العقوبات المفروضة سلفاً. وقد أبدت موسكو تحفظاً واضحاً على أي عقوبات "أحادية" ربما تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على طهران. ثم هناك عدة قضايا أمنية أخرى، من بينها: الدفاع الصاروخي، والأسلحة النووية التكتيكية، واستمرار الموقف الروسي من جورجيا، وكلها ملفات يتوقع أن تكون أكثر صعوبة عند التصدي لها، مقارنة بعدم صعوبة التصدي لمسائل خفض الأسلحة النووية الاستراتيجية. ولعل هذا الهدف الأخير بالذات، تبدو موسكو أكثر حاجة له وأشد حرصاً عليه من واشنطن، بحكم تخلف ترسانتها النووية وحاجتها إلى التطوير والتحديث، مقارنة بتقدم ترسانة الأسلحة النووية الأميركية. ومهما قيل عن ليبرالية ميدفيديف وميله للتحديث والإصلاح، فإن الحقيقة الواضحة التي لا مراء فيها هي أن روسيا أصبحت أقوى قبضة -وليس أقل كما يفترض- في ظل حكومته وإدارته. وأكثر من ذلك، وفيما لو قرر بوتين خوض الانتخابات الرئاسية مجدداً في عام 2012، فلن يبقى شيء لأوباما يعرضه على نظيره بوتين، من استراتيجية واشنطن الحالية، القائمة على العلاقات مع ميدفيديف. ويمكن لكل هذه التطورات والتعقيدات أن تحدث، بصرف النظر عما إذا كان الكونجرس الأميركي قد أجاز معاهدة "ستارت" الجديدة أم لم يجزها. وهنا يجدر القول باعتراف بعض كبار مسؤولي الإدارة باحتمال ازدياد التوتر في العلاقات بين واشنطن وموسكو قريباً. وعندها فإن عليكم تصور ما يمكن أن يكون عليه الحال، فيما لو امتنع المشرعون الجمهوريون عن إجازة معاهدة "ستارت" الجديدة، بينما بدأت العلاقات تسوء بالفعل بين أميركا وروسيا. ونعود مرة أخرى إلى النتائج الثلاث التي لخصناها في صدر هذا المقال، التي ستترتب على عدم إجازة المعاهدة: تعزيز موقف بوتين، وإضعاف نفوذ أوباما وموقفه في المقابل، ثم تعقيد العلاقات الأميركية- الروسية في ظل ظروف تغيب فيها معاهدة ضرورية للتحكم بالأسلحة النووية الاستراتيجية. ولاشك أن هذه النتائج ستكون فادحة وكارثية مقابل إجازة معاهدة محدودة الأثر على ترسانة أسلحتنا النووية، بينما هي بالغة الأهمية في الوقت ذاته في تعزيز نفوذ أميركا وعلاقاتها مع روسيا. ومهما كانت الحجج والأسباب التي يثيرها المشرعون الجمهوريون، فلا أظنهم غافلين عن خطر تحمل مسؤولية تاريخية كهذه، بامتناعهم عن إجازة المعاهدة. فهذه هي اللحظة التي ينبغي فيها على الجمهوريين التسامي على لعبة التكتيكات والمكايدات الحزبية الضيقة. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس"