لابد أن بعض المراقبين الذين يملكون خلفية تاريخية قومية رصدوا أوجه الشبه بين الزيارة التي يقوم بها أوباما والسيدة الأولى الأميركية إلى آسيا وما رافقها من أبهة واهتمام عالمي بالزيارة الملكية التي قامت بها بداية القرن العشرين العائلة المالكة البريطانية ممثلة في شخصي الملك جورج والملكة ماري إلى نيودلهي لينصبا إمبراطورين على الهند. وكذلك فإن المراقبين ذوي الاطلاع التاريخي لن يفوتهم أيضاً تذكر ما تلا ذلك التتويج بعد 36 عاماً فقط عندما قُسمت الهند إلى جزءين وأُعلن رسميّاً انتهاء الإمبراطورية البريطانية وحصول الهند على استقلالها عن التاج البريطاني الذي ظل مهيمناً عليها لفترة طويلة. وقد كانت لافتة كذلك الانتقادات السخيفة التي وجهها بعض أعضاء حركة "حفل الشاي" في الولايات المتحدة لزيارة أوباما إلى الهند عندما نقلوا أخباراً أوردتها الصحافة الهندية حول تكاليف الزيارة الرئاسية والتي حسب بعض الصحف تعادل نفقات الحرب اليومية في أفغانستان، مذكرة أيضاً بأن الزيارة استدعت تحرك نصف الأسطول الأميركي في آسيا لمرافقة الرئيس وحمايته، حيث ركز المنتقدون سهامهم على ما بدا أبهة ملكية صاحبت الرئيس الأميركي في زيارته إلى آسيا. والحقيقة أن هذه الانتقادات ليست بعيدة في جزء منها على الأقل عن الواقع الأميركي، ولاسيما أنها ليست المرة الأولى التي يتحرك فيها الرؤساء الأميركيون في زياراتهم الخارجية صحبة قطع عسكرية تضفي على انتقالهم بعداً ملكيّاً إمبراطوريّاً لا تخطئه العين مثلما عُرف عن الرئيس فرانكلين روزفلت الذي كان يسافر على متن سفينة حربية إلى أن اضطر في عام 1945 بضغط من الجهاز الأمني إلى السفر على متن طائرة شحن بعدما عدلت لهذا الغرض. والراهن أن زيارة أوباما الحالية لآسيا، التي أُجلت أصلاً أكثر من مرة، تأتي في إطار مساعي الرئيس لتعزيز صورته كصانع للسياسة الخارجية. إلا أنها بدت في الوقت نفسه بالنسبة للآسيويين وكأنها جزء من تصورات واشنطن ومخاوفها من صعود نظام آسيوي جديد تواجه فيه الولايات المتحدة منافسة شرسة من الصين والهند واليابان، فبدأت الزيارة من الهند التي عبر فيها أوباما عن تعاطف واشنطن مع طموحات نيودلهي للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، وهو الطموح الذي تتخذ منه اليابان موقفاً فاتراً في حين تعارضه الصين. ولا ننسى أيضاً أن التوجه الأميركي الحالي نحو آسيا يأتي في إطار الترتيبات الأمنية التي تسعى واشنطن للاتفاق عليها مع دول المنطقة وتحديد دورها في هذه الترتيبات، لاسيما بعد التعاون غير المسبوق الذي بدأته إدارة بوش مع الهند في المجال النووي وتمتعها بتقنيات نووية سلمية اعتبرها العديد من المحللين خرقاً لمبادئ عدم الانتشار النووي التي كانت تعد حتى وقت قريب إحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية. وفي خلفية الصورة الحالية لزيارة أوباما لآسيا يبدو أيضاً التغير الحاصل في سياسات أميركا تجاه الصين، فبعد موسمين من العلاقات الدافئة بين البلدين يبدو أن واشنطن انقلبت على السياسة النقدية لبكين، كما تدخلت بشكل غير مرحب به من الطرف الآخر في قضية الخلاف المندلع بين الصين وستة من جيرانها حول الحقوق التجارية وملكية بعض المناطق المتنازع عليها في بحر جنوب الصين، حيث صرحت وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، في شهر يوليو الماضي بأن للولايات المتحدة "مصلحة قومية" في حل النزاع. ولأن الذاكرة الأميركية لم تنسَ بعد ما حدث في فيتنام تصر واشنطن على الاحتفاظ بقواتها في اليابان التي يصل قوامها إلى 40 ألف جندي، وتُبقي قاعدة عسكرية ببنية تحتية متطورة في جزيرة أوكيناوا اليابانية، هذا في الوقت الذي تحتفظ فيه بحوالي 28 ألف جندي في كوريا الجنوبية، بحيث يبدو أن الولايات المتحدة عازمة على الاستمرار كقوة آسيوية، بل ربما باعتبارها القوة الآسيوية الوحيدة. إن هذا الإصرار الأميركي على التواجد في آسيا تحركه اعتبارات وحسابات جيو-استراتيجية يجريها المسؤولون والخبراء في "البنتاجون" والبيت الأبيض ومراكز الأبحاث الرئيسية في واشنطن وتهم الدور الأميركي في المنطقة. ولكن المشكلة بالنسبة للسياسات الأميركية مثل "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي أعلنته واشنطن في عام 2004 هي أنها عادة ما تفشل في التبلور على أرض الواقع، كما أن التدخل الأميركي في العراق وأفغانستان الذي دشنته إدارة بوش قوبل على رغم تعثره بزيادة أخرى في عدد الجنود بأفغانستان مع استبدال السحب الجزئي للقوات الأميركية من العراق بتوسيع التواجد الدبلوماسي والمدني لإسناد نشاط وزارة الخارجية في العراق تدعمها في ذلك قوات من المرتزقة على أمل أن يساعد هذا الحضور المدني المكثف في تعزيز الديمقراطية في العراق. ومع هذا نعرف أن مساعي بوش في هذا الصدد أثبتت فشلها. والحال أن السياسة الخارجية الأميركية كما لاحظ ذلك العديد من المراقبين نادراً ما تتعظ من أخطائها وتغير وجهتها في حال الفشل، بل هي على العكس من ذلك تعمد إلى تعميم وتكريس الأفكار ذاتها التي أنتجت الإخفاق تماماً كما يحدث اليوم. فمازال النهم الإمبريالي لأميركا مستمراً لدى بعض الأوساط الحاكمة على رغم دروس التاريخ، حيث يتم فقط تغيير الشعارات في كل مرحلة تاريخية لتأخذ اليوم عنواناً جديداً هو: الحرب الطويلة لجلب الديمقراطية إلى العالم. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة تريبيون ميديا سيرفيس"