مُني الرئيس الأميركي أوباما بهزيمة قاسية في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة بعدما خسر حزبه الديمقراطي أغلبيته التي كان يتمتع بها في مجلس النواب لصالح الحزب الجمهوري الصاعد على الساحة السياسية، ولم يكتفِ الجمهوريون بمجلس النواب بل حققوا مكاسب أيضاً في مجلس الشيوخ، وإن كانت أقل من الأغلبية التي كانوا يطمحون إليها للسيطرة على غرفتي الكونجرس وإعاقة تشريعات أوباما. وما يميز الانتخابات الأخيرة أن اهتمام الناخبين بها كان منصباً على السياسة الداخلية الأميركية لاسيما الاقتصاد الذي يقلق العديد من الأميركيين فيما احتلت السياسة الخارجية مركزاً متأخراً سبقته الانشغالات الملحة مثل البطالة والوضع الاقتصادي غير المستقر. لكن ذلك لا يعني أن السياسة الخارجية ستبقى على حالها فتغيرها من عدمه يعتمد بشكل كبير على تعامل الجمهوريين مع أعضائهم الجدد الذين انضموا مؤخراً إلى الكونجرس متمثلين في أعضاء حركة "حفلة الشاي" التي استقطبت اهتمام الجمهور الأميركي وجندت وراءها فئات عريضة من الرأي العام، خاصة فيما يتعلق بقضايا تحظى بإجماع كبير في صفوف الحركة، وعلى رأسها معارضتهم للعجز الكبير الذي تعانيه الميزانية الفدرالية وإصرارهم على تقليص النفقات العمومية لوقف النزيف والحد من العجز الذي يتحمله في النهاية دافعو الضرائب الأميركيون. بل إن بعض أفراد الحركة يطالبون بخفض موازنة الدفاع، على غرار باقي البرامج الاجتماعية التي يدعون إلى الحد منها، كما هو الحال بالنسبة للرعاية الصحية. وهو تغيير مهم في بعض الأوساط السياسية يطال الآن قلعة الدفاع الحصينة التي كانت إلى وقت قريب بمنأى عن التدخلات السياسية وإحدى الثوابت الأساسية للسياسة الأميركية. لكن من غير المرجح أن يتمكن النواب المحسوبون على حفلة الشاي من التأثير على أعضاء الكونجرس الأكثر خبرة في الحزب الجمهوري والمعروفون بمساندتهم لتوسيع ميزانية الدفاع حماية للأمن القومي الأميركي. ومع ذلك هناك فرص جيدة أمام حركة الشاي للتحالف المرحلي على الأقل مع الأعضاء التقدميين من يسار الحزب الديمقراطي الذين يطالبون هم أيضاً بخفض موازنة الدفاع والذين سبقوا أن عبروا عن استيائهم تجاه سياسات أوباما، سواء في الداخل أو الخارج؛ فاليسار الأميركي يرى أن أوباما لم يقم بما يكفي لإعادة توزيع الثورة من الأغنياء إلى المواطنين العاديين، هذا بالإضافة إلى معارضة اليسار للحرب في أفغانستان ومطالبتهم بسحب القوات الأميركية في أجل أقصاه أواخر عام 2011، إن لم يكن قبل ذلك. لكن، وفيما عدا التحالفات المرجح انبثاقها بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس والتي يترقب أن تعكس توافقاً حول القضايا الأساسية أكثر من كونها انسجاماً أيديولوجياً تبقى الانتخابات الأخيرة وما أسفرت عنه من نتائج مؤشراً واضحاً إلى مدى الخيبة التي يستشعرها الأميركيون إزاء إدارة أوباما التي لم تقم بما يكفي في نظرهم للحد من معدلات البطالة المرتفعة واستمرار الوهن الاقتصادي غير المنتج للوظائف. والمفارقة أنه في الوقت الذي يبحث فيه قطاع واسع من العمال الأميركيين عن فرص عمل تقيهم ذل الحاجة والمساعدات الحكومية، تزداد ثروات الأغنياء، حيث تشير الأرقام إلى تركز 20 في المئة من ثروات البلاد في أيدي 1 في المئة من الأميركيين، وهو الرقم الذي يذكرنا بما كان عليه الوضع قبل الكساد العظيم خلال ثلاثينيات القرن الماضي. ولعل ما يفاقم حالة الاستياء لدى الأميركيين هو شعورهم بأن مدراء وول ستريت الذين تلاعبوا بمدخرات الأفراد وقامروا بها في البورصة متسببين في خسارات مالية فادحة وفي انهيار مدمر للمؤسسات البنكية وصناديق التحوط، لم يلقوا الجزاء الذي يستحقونه ولم يتحملوا مسؤولية ما جنته أيديهم، بل إن الجشع الذي أبداه مدراء وول ستريت وجريهم المتهور وراء الربح السهل، ساهمت فيه الحكومات الفدرالية المتعاقبة التي خففت القيود على التعاملات المالية واعتنقت مذهباً مفرطاً في ليبراليته يرفع القيود عن الشركات المالية. وقد زاد من عدم ثقة الأميركيين في حكومتهم ذلك التواطؤ القائم بين جماعات الضغط المؤثرة على الكونجرس، والتي تعمل لحماية مصالح وول ستريت، وبين السياسيين والأكاديميين الذين يبررون، بلغة تغلف بمصطلحات علمية، تجاوزات المؤسسات المالية، وفي الوقت الذي كان فيه الشعب الأميركي ينتظر من اقتصادييه -سواء في المؤسسات العامة مثل الاحتياطي الفدرالي أو الجامعات المرموقة التي تضم خيرة الاقتصاديين في العالم- تحذيره من السياسات المالية غير المأمونة، راح هؤلاء يقدمون النصح والمشورة للشركات نفسها التي تسببت في الأزمة. وليس غريباً في هذا السياق أن تتراجع ثقة الأميركيين في المثقفين الذين ينظرون بتعال إلى المواطن الأميركي البسيط ويقنعونه بالسياسات الرسمية. هذا الوضع يفرض على أوباما، إذا كان يريد استعادة ثقة الرأي العام في إدارته، إبداء قدر أكبر من التفهم لانشغالات الأميركيين ومخاوفهم المشروعة، كما يتعين عليه إيجاد طريقة ما للتعاون مع الجمهوريين الذين باتوا يسيطرون اليوم على مجلس النواب من خلال التعهد باستشارتهم والسعي إلى توافقات حول التشريعات المقبلة. ولعل العزاء الوحيد لأوباما ما أشارت إليه استطلاعات الرأي بعد الانتخابات الأخيرة من أن الحزب الديمقراطي مرشح لتحقيق نتائج أفضل في عام 2012 إذا ما تحسن الاقتصاد وتراجعت معدلات البطالة. فحسب المراقبين، لم يصوت الناخبون للجمهوريين حباً فيهم، بل لمعاقبة الديمقراطيين الذين يسيطرون على الكونجرس والبيت الأبيض، ولتذكيرهم بأنه ما لم يعالجوا المشاكل الحقيقية للأميركيين فإنهم قد يفقدون البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية القادمة.