التزمت الولايات المتحدة مبدأ عدم التدخل في الشؤون العالمية حتى القرن الثامن عشر، وكان همها منصبّاً على الشؤون الداخلية حيث تشكل في ذاتها قارة تتمتع بالاكتفاء الذاتي. ولكن أول خروج عن هذا المبدأ وقع في عام 1791 وكان مسرحه شمال أفريفيا في غرب البحر المتوسط. وأدى ذلك الخروج إلى إعلان أول حرب أميركية في ما وراء البحار، وكان هدفها ليبيا. في ذلك الوقت كان عرب شمال أفريقيا (المغرب والجزائر وتونس وليبيا) يسيطرون على الملاحة في غرب المتوسط ويفرضون ضرائب على حركة مرور السفن التجارية. وفي شهر مايو 1784 شكل الكونجرس الأميركي لجنة خاصة لمفاوضة هذه الدول على عقد اتفاقيات ثنائية مع كل دولة منها. وكانت اللجنة تتألف من ثلاثة أعضاء أصبحوا جميعهم فيما بعد رؤساء للولايات المتحدة وهم بنجامين فرانكلين، وجون آدامس، وتوماس جيفرسون. وفي عام 1786 نجحت اللجنة في التوصل إلى اتفاق مع المغرب وقد التزمت الولايات المتحدة بموجب هذا الاتفاق بأن تدفع عدة آلاف من الدولارات رسوماً للمغرب مقابل حماية المغرب للسفن التجارية الأميركية من القراصنة. ولكن اللجنة فشلت في عقد اتفاقات مماثلة مع كل من الجزائر وليبيا. فاقترح آدامس زيادة الرسوم لكل منهما بهدف التوصل إلى اتفاق معهما. ولكن جيفرسون عارض الاقتراح وقدم اقتراحاً بديلاً يقضي بتشكيل قوة عسكرية بحرية تتولى هي الدفاع عن السفن الأميركية.وفي يناير 1791 تبنّت لجنة الكونجرس الخاصة بقضايا التجارة في البحر المتوسط اقتراح جيفرسون بتشكيل القوة البحرية، وكان جيفرسون في ذلك الوقت يشغل منصب وزير الخارجية. وفي مارس 1794 أجاز الكونجرس للحكومة الأميركية بناء ست سفن حربية لاستعمالها ضد ليبيا والجزائر. وكانت تلك السفن هي النواة الأولى للقوة البحرية الأميركية. ولا يزال الأسطول الأميركي في البحر المتوسط يحمل اسم الأسطول السادس نسبة إلى تلك السفن الست على الأرجح. غير أن الولايات المتحدة تمكنت من التوصل إلى اتفاق مع الجزائر في 28 نوفمبر 1795، تدفع هي بموجبه للجزائر ضرائب سنوية بمبلغ 21.600 دولار، إضافة إلى مبلغ أولي قيمته 642.500 دولار. وفي 4 نوفمبر 1796 تمّ التوصل إلى اتفاق آخر مع ليبيا تدفع الولايات المتحدة بموجبه 56 ألف دولار. وفي أغسطس 1797 تم الاتفاق مع تونس مقابل 107 آلاف دولار . ولكن ما إن تمّ بناء قطع الأسطول البحري الحربي الست حتى نكثت الولايات المتحدة بالاتفاقات وامتنعت عن تسديد ما التزمت به، الأمر الذي أدى إلى تدهور العلاقات مع هذه الدول. وفي عام 1801 أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ليبيا. وكان ذلك أول إعلان حرب يصدر عنها بعد استقلالها عن بريطانيا. وتنفيذاً لإعلان الحرب أرسلت الولايات المتحدة أربع سفن حربية إلى المتوسط بقيادة الكومندور ريتشارد دال، الذي كان أول قائد لأول أسطول أميركي في المتوسط. ولكن طرابلس استعصت عليه وفشل في اقتحامها من البحر. وكان ذلك أول فشل عسكري أميركي في المتوسط. وقد اضطر "دال" إلى التراجع والاحتماء بسفنه الأربع في جبل طارق. واستبدلت القيادة الأميركية القائد الفاشل بقائد جديد هو الكومندور ريتشارد موريس الذي جدّد حصار طرابلس في يونيو 1802. ولكن القوات البحرية الجزائرية والمغربية تحركتا معاً ضده فاضطر للانسحاب. وفي العام التالي جدد الحصار على طرابلس في مايو 1803، إلا أنه اضطر بعد تعرّضه لخسائر جسيمة إلى الانسحاب مرة أخرى في سبتمبر من العام نفسه تاركاً إحدى قطع الأسطول غارقة في مياه خليج سرت. ثم كان الفشل من نصيب خلفه الكومندور أدوارد بريبل أيضاً، ومن نصيب الكومندور صموئيل بارون كذلك. إلى أن نجحت الولايات المتحدة بعملية التفافية على طرابلس من البر والبحر معاً. فقد قامت قوة عسكرية بقيادة وليم إيتون بالنزول في منطقة بعيدة عن طرابلس. والتفت هذه القوة حول طرابلس جنوباً عبر الصحراء، فيما كانت قطع الأسطول تحاصر المدينة من البحر شمالاً. وتحت ضغط كماشة الحصار المزدوج من البحر والبر، اضطرت طرابلس للتفاوض ووقّعت في 4 يونيو 1805 على "اتفاقية سلام" تنص على تبادل القنصليات وعلى تبادل "الحقوق الأكثر رعاية في التبادل التجاري". ولم تقتصر نتائج الحصار في عام 1805 على ليبيا وحدها، إذ سرعان ما توجه بعد ذلك قائد الأسطول الأميركي الكومندور جون روجرز إلى كل من تونس والجزائر والمغرب حيث أملى عليها اتفاقيات مماثلة. وعاد في عام 1806 إلى الولايات المتحدة تاركاً ثلاث سفن حربية غارقة في قعر خليج سرت حيث لا تزال مطمورة حتى اليوم. ولكن ليبيا وتونس والمغرب والجزائر تصدّت من جديد للأسطول الأميركي، فأعلنت الولايات المتحدة الحرب على الجزائر في مارس 1815. ووقعت معارك بحرية عنيفة استمرت حتى أكتوبر 1816. ولما تمكّنت الولايات المتحدة من كسر شوكة شمال أفريقيا، سيطرت على الملاحة في غرب المتوسط وفرضت بذلك هيمنتها على الدول الأوروبية المطلة على البحر. فقد أصبحت قادرة على التحكم بحركة السفن التجارية -والعسكرية- في غرب المتوسط وعبر شريانه الوحيد إلى المحيط الأطلسي -جبل طارق. وقد أدى هذا الواقع إلى تراجع العلاقات الأميركية- الفرنسية بصورة خاصة. وكان هذا الأمر أحد الحوافز الرئيسية وراء الحملات الاستعمارية التي قامت بها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا فيما بعد لاحتلال دول شمال أفريقيا. فاحتلت إيطاليا ليبيا، واحتلت فرنسا تونس والجزائر وجزءاً من المغرب، واحتلت إسبانيا أجزاء أخرى في المغرب. إلا أن التنافس انتقل هذه المرة إلى الدول الأوروبية للسيطرة على الممرات المائية وطرق المواصلات في الشرق الأوسط، فكانت الحملات الاستعمارية على المنطقة العربية من البحر المتوسط حتى البحر الأحمر ومن باب المندب حتى مضيق هرمز. وعندما اضطرت بريطانيا "للانكفاء" عن منطقة الخليج العربي في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، بادرت الولايات المتحدة إلى فرض نفوذها تحت شعار "ملء الفراغ". وقد ساعدها على إنجاز هذه المهمة دورها الأساس في حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينيات ودورها في تحرير الكويت من الاجتياح الاحتلالي العراقي. واليوم تنتشر قطع الأسطول الأميركي في الخليج العربي كما تنتشر في البحر المتوسط غرباً وشرقاً. وهي موجودة هناك منذ عام 1791.. ولم تغادره ليوم واحد. فدبلوماسية الزوارق المسلحة التي ساد الاعتقاد بأنه قد عفا عليها الزمن، أصبحت أكثر حضوراً وأشد أثراً في زمننا الحاضر.