أثارت مقالتنا الماضية "الوحدة العربية والمشابهة التاريخية" المنشورة في 4 نوفمبر 2010 تعليقات أكثر من خمسة عشر قارئاً، تفاوتت آراؤهم بين تأييد مطلب الوحدة العربية وإنكار إمكانية قيامها. وأحسست بالحاجة إلى تأصيل بحث الموضوع من خلال عرض آراء النخبة واتجاهات الجماهير. ويمكن القول إن جوهر المشروع القومي وهو فكرة العروبة له جذور تاريخية عميقة، وتجليات قُطرية، لعل من أبرزها ظهور فكرة العروبة في مصر باعتبارها مكوناً أساسيّاً من مكونات الهوية المصرية، وتطبيقات قومية أخذت طريقها إلى عديد من البلاد العربية. والحال أن التيار العروبي كانت له جذور قومية في مصر، كما تجلى ذلك على وجه الخصوص في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات. ولعل إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 ومقرها الدائم في القاهرة، يعد تكريساً رسميّاً للفكرة العروبية. وليس هناك أدنى شك في أن ثورة يوليو 1952 هي التي دفعت بالفكرة العربية أشواطاً بعيدة إلى الأمام، سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الممارسة، والتي وصلت إلى أعلى ذراها بتحقق الوحدة المصرية السورية عام 1958. غير أن تجربة الانفصال المريرة ألقت بعديد من الشكوك على الفكرة العروبية، ليس من زاوية صدقها النظري، ولكن من إمكانية تحقيقها الفعلي، مما أدى إلى تحولات كبرى في الخطاب القومي التقليدي، الذي قدر الكثيرون أنه لم يعد صالحاً للتطبيق، وأنه من الأفضل أن يتحول إلى خطاب وظيفي، يركز على المكاسب التي يمكن أن تحصل عليها الدول القُطرية من الوحدة. ومن هنا كان لابد من إلقاء نظرة فاحصة على النظام العربي ومستقبل جامعة الدول العربية، وعملية صعود الخطاب القومي العربي، والتحولات التي غيرت من بنيته. ويمكن القول إن اتجاهات البحوث العربية في العقود الأخيرة، تركزت على ثلاثة موضوعات رئيسية وهي تقييم دور جامعة الدول العربية، وأزمة النظام العربي، واستشراف مستقبل العالم العربي. ولو أردت أن أجمل الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مقالنا لقلت إننا نمر بلحظة تاريخية فارقة، نشهد فيها نهاية الخطاب القومي التقليدي وبداية صعود الخطاب القومي الوظيفي. ونحن حين نتحدث عن الخطاب فأنا أعني في الواقع نسقاً مترابطاً من المقولات ونوعية محددة من الممارسات في الوقت نفسه. تأتي نهاية الخطاب القومي التقليدي بعد مرحلة مر فيها هذا الخطاب بأزمة خانقة على صعيد النظر والممارسة معاً. وقد عبر عن هذه الأزمة -وخصوصاً في سنوات التردي والانهيار التي أعقبت هزيمة يونيو عام 1967- عديد من المثقفين العرب. وهناك إجماع بين الباحثين على أن العروبة تمثل المبدأ الذي تصدر عنه الغالبية العظمى من المفكرين العرب، على رغم اختلاف إيديولوجياتهم، بمعنى أن الانتماء العربي لغة وتاريخاً وحضارة هو الأساس الذي ينطلقون منه في تحليلاتهم للواقع العربي، وفي استشرافهم لمستقبله. ومن ناحية أخرى، فإن الوحدة: تعريفها وكيفية تحقيقها وسبل مواجهة خصومها هي العمود الأساسي للخطاب القومي العربي. وإذا أردنا أن نحدد العناصر الأساسية لهذا الخطاب يمكننا أن نحصرها في أربعة موضوعات وهي: ضرورة الوحدة العربية، وأنصار الوحدة وأعداؤها، وطريق الوحدة العربية، ونظرية الوحدة العربية. فيما يتعلق بضرورة الوحدة العربية يعتبر بعض الباحثين أن أقوى تعبير سياسي عنها نجده لدى جمال عبدالناصر في الميثاق حيث يقول: "إن الأمة العربية لم تعد في حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة بين شعوبها، لقد جاوزت الوحدة هذه المرحلة وأصبحت حقيقة الوجود العربي ذاته، يكفي أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الضمير والوجدان، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير". وترجع أهمية هذا النص إلى أنه يجمع في فقرة واحدة بين الأسباب الثلاثة الكبرى التي يرجع إليها المثقفون القوميون العرب في كتاباتهم، وهي اللغة والتاريخ والمصير المشترك. ولن نخوض كثيراً في موضوع أنصار الوحدة وأعدائها، يعنينا على وجه الخصوص فيما يتعلق بطريق الوحدة العربية أن الخطاب القومي التقليدي يأنف من القول بتحقق الوحدة العربية عن طريق التعاون والتكامل بين الدول العربية، لأنه يدين القُطرية (أي التجزئة) في تلك الدول. ولعل أبرز ما يعبر عن هذا الرفض الانتقادات التي يوجهها المثقف العربي القومي للمبدأ الذي يقضي بجواز قيام الوحدة العربية على أساس المصالح المادية، وهي المصالح الاقتصادية للبلاد العربية. فهذا المفهوم يعد "نقيضاً لنظرية الدمج السياسي التي تقول بالاتحاد السياسي أولًا. وقد انعكست أزمة الخطاب القومي العربي التقليدي على النظام العربي ذاته، بحكم وحدة الفكرة والممارسة، وقد لخص بعض الباحثين العرب المشكلات المختلفة التي يواجهها النظام العربي في بروز عدد من المشكلات المحورية التي صيغت في شكل تناقضات: - المفهوم القومي في مواجهة المفهوم الديني، ويقصد الاتجاه العربي في مواجهة الاتجاه الإسلامي. والمفهوم القومي في مواجهة المفهوم الإقليمي، ويقصد التناقض بين النظام العربي والنظام الشرق أوسطي. والمفهوم القومي في مواجهة المفهوم المحلي، ويقصد بالمحلي هنا التجمعات العربية الوسيطة (كمجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي، والاتحاد المغاربي). والمفهوم القومي في مواجهة المفهوم السياسي، ويقصد به سياسة المحاور السياسية العنيفة التي تنشأ داخل النظام. ومن كل هذه الجدليات أثبتت الممارسة أن جدلية القومي في مواجهة المحلي، أصبحت هي الجدلية الأساسية التي تفعل فعلها في الوقت الراهن على حساب كل الجدليات السابقة، ويكشف عن هذا إنشاء مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي. وقد يرد ذلك إلى نهاية عهد الخطاب القومي العربي التقليدي، وبزوغ الخطاب القومي العربي البراجماتي والوظيفي وإن كانت مسيرته ما زالت متعثرة! وقد دار في السنوات الأخيرة صراع عنيف بين الخطاب القومي التقليدي والخطاب الوظيفي البازغ. وقد تمحور الصراع حول عدد من القضايا الجوهرية أهمها على الإطلاق الجدل حول دور الدولة القُطرية، وهل هو سلبي أم إيجابي في نطاق النظام العربي، وحول فشلها أو نجاحها في أداء الأدوار المنوطة بها، ثم النقطة الجوهرية وهي كيفية تحقيق الوحدة العربية، وخصوصاً بين أنصار المدخل السياسي وخصومهم أنصار المدخل الوظيفي. ويمكن القول إن "هجاء" الدولة القطرية تقليد مشرقي أكثر من كونه تقليداً مغاربيّاً في تقاليد الخطاب القومي العربي التقليدي، فليس لدى المفكرين المغاربة -لأسباب شتى- هذا الاستعداد الدائم للانقضاض على الدولة القطرية كما هو الحال بالنسبة للمثقفين المشارقة. إلا أن الأخطر من ذلك أن الفكر القومي لم يعن حقيقة بقضية "الدولة الوطنية" بمفهومها المؤسسي والحقوقي، بل ظل يفكر بالدولة القُطرية، فيكتفي بالطعن في شرعية الدولة القُطرية أي كل دولة قائمة على الساحة العربية. وكانت النتيجة أن الفكر القومي -على رغم إيجابياته النضالية الكثيرة- أغفل قضية الدولة الوطنية "كمؤسسات"، كدولة القانون والحقوق، كأداة لتحديث نظام السياسة، وتطوير علاقات المواطنين وحقوق الإنسان. غير أن أعنف معركة دارت بين الخطاب القومي العربي التقليدي والخطاب العربي الوظيفي، تركزت حول أسلوب تحقيق الوحدة العربية، وكان ذلك بمناسبة إنشاء الاتحاد المغاربي في الثمانينيات. وكان لابد للخطاب القومي العربي التقليدي أن يعبر عن رأيه في هذا التيار الإقليمي الآخذ في التصاعد، ونعني إنشاء مجلس التعاون الخليجي، ثم إنشاء مجلس التعاون العربي (الذي انتهى)، وإنشاء الاتحاد المغاربي. ويمكن القول إن هذا الجدل قد انتهى منذ سنوات، لأن القُطرية ترسخت في كل دول العالم العربي، وتراجعت دعوات المفكرين لتحقيق الوحدة العربية وتضاءلت مطالبهم، وتركزت حول تحقيق خطوة أولى متواضعة هي إنشاء سوق اقتصادية عربية مشتركة. ويجري الآن "مركز دراسات الوحدة العربية" استطلاعاً مهمّاً لرأي الجماهير العربية حول الديمقراطية والوحدة. فلننتظر النتائج حتى نعرف التحولات التي لحقت بالخطاب القومي العربي.