حللنا ضيوفاً على معرض الشارقة الدولي للكتاب الأسبوع الماضي، وكان في الواقع أكبر بكثير من مجرد معرض! إنه حالة ثقافية استثنائية ولم يكن مساحةً مكانية لعرض الكتب ومستلزمات التعليم فحسب. وقد أضاف المعرض رونقاً لحياة رواده من خلال التنوع، ليس في مواضيع الكتب واتجاهاتها فحسب، بل أيضاً لجهة دور المؤسسات الرسمية والأهلية في المشاركة وتقديم منتجاتها، واستغلال هذا التجمع الثقافي كي تقدم نشاطاتها للجمهور. وعلى عادة المعرض كل عام فقد احتفى بالمبدعين الإماراتيين والعرب والأجانب، من خلال المقاهي الثقافية والندوات واللقاءات الصحافية والإذاعية والتلفزيونية. كما قدم هذا العام بُعداً آخر من حيث توزيع جوائز وزارة الثقافة التي تقدَّم لها أكثر من 3 آلاف مشارك، وكذلك نشاط جائزة الشيخ زايد للكتاب، واستعراض التراث التقليدي الذي حظي بجمهور كبير، إضافة إلى المساءات الشعرية بأنواعها. ولذا فإن معرض الكتاب مؤسسة ثقافية بحد ذاته، وليس تنظيماً وعلاقات مع دور النشر المحلية والعربية. إن البعد الفكري لمعارض الكتب هو الذي يؤسس لثقافة التنوع والتقاء الأفكار، بل وتعارف المبدعين العرب. وهذا البعد ينبغي أن يأخذ الاهتمام المطلوب في معارضنا المقبلة. ولكم أسعدنا شاعر هندي تحمل مشقة السفر من بلده وهو في الثمانين؛ حيث احتشد له أكثر من ألف شخص قدموا له التقدير والإعجاب. وقد وجّه مواطنيه كي يكونوا خير سفراء لبلدهم -خصوصاً ولاية كيرالا- مؤكداً أنهم بمحافظتهم على السلوك القويم واحترام القوانين في البلدان التي يقطنونها إنما يقدمون خدمة جليلة لوطنهم، وبذلك يحظون باحترام وتقدير المواطنين. إن معرض الكتاب هو نتاج تخطيط سليم. ولئن صارت معارض الكتب -على المستوى العالمي- مصادر لتمويل المؤسسات والكسب، فإن دورها الفكري يظل هو الأقوى والأصلح للشعوب. ومع تطور وعي الشعوب وتراخي قبضة الرقابة على الإنتاج الإبداعي؛ فإن فتح آفاق جديدة للمعرفة يصبح مطلباً حيويّاً ليس في الإطار الرسمي فحسب، بل في الأطر المحلية المدنية أيضاً. ونحن في العالم العربي نعاني "أمية القراءة" إن صح التعبير، ونعاني عدم التعود على القراءة، وترهقنا الحياة في المكاتب والمواصلات ومقاعد الانتظار، فلا نمارس القراءة إلا داخل غرفنا! وبالتالي لا تتطور لدينا مَلَكة أو عادة القراءة، وأغلب القراء هم الطلبة الذين "يحفظون" من أجل النجاح في الامتحان، ثم يعودون إلى إهمال القراءة. وحالنا في العالم العربي إذ نسجّل تدنيّاً ملحوظاً في استهلاك الكتب والورق وتوزيع الراديو والتلفزيون، بحيث لا نصل إلى مستوى بلد أوروبي واحد هو إسبانيا! فإن استهلاكنا للتكنولوجيا الحديثة أيضاً يسير ضد عادة القراءة! بل أحياناً لتدمير ما بناه المدرس في المدرسة أو الجامعة، من حيث الاعتماد على الترجمة الإلكترونية أو الاختصارات اللغوية التي تفسد اللغة ذاتها ولا تنمي الحصيلة اللغوية والتعبيرية لدى الإنسان. لن نتحدث عن النوع المطبوع من الكتب، ذلك أن أغلبه -في العالم العربي- يعتمد على إعادة طبعات لكتب قديمة طغت عليها الردود والردود المضادة في مسائل حول القيم أو المذاهب المختلفة ومدارسها. ولذلك نرى أن أضخم منصات موائد الكتب في المعارض هي لتلك الكتب ذات الأغلفة السميكة، في مقابل ضآلة واضحة في كتب الاستشراف، أو قراءة المستقبل أو نماذج العلوم الحديثة أو الفلسفة. ولسنا ضد التبحر في العلوم الإنسانية والفقهية طبعاً، ولكننا نحتاج لمؤسسات منظمة تستنبط علوم الحياة، وتحث دور النشر على تقديم قراءات رقمية لمستقبل المنطقة العربية، فذلك حتماً سيعين الحكومات على تقديم الحلول الناجعة لمشاكلنا! قليلة هي الكتب التي تتحدث عن أزمة نضوب المياه في المنطقة العربية وهذا موضوع مهم ومؤثر جدّاً، أو أزمة الغذاء التي جعلت من العالم العربي منطقة استهلاك شديدة النهم، على رغم ما قيل عن "سلة غذاء العرب" وهي السودان حيث تهشمت سلة الغذاء وفشلت المساعي العربية والمحلية في هذا المجال. ومن المواضيع المهمة التي تحتاج أيضاً إلى دراسة حال الديمقراطية في العالم العربي، وحال مؤسسات المجتمع المدني، وخلل التركيبة السكانية في دول الخليج، والحكم السلطوي الذي قد يبقى أكثر من ثلاثين عاماً دون محاسبة على التردي الاقتصادي والاجتماعي والتنموي! وتعامل بعض الأنظمة العربية بانتقائية مع المواثيق الدولية، ومحاولة بعضها "ليَّ" معاني مواد هذه المواثيق حتى لا "تتورط" في نتائج تطبيقها مع شعوبها. ومن الأمور الاستشرافية حقيقة الواقع السياسي للأمة في ظل وجود الخلايا الإرهابية العابثة بين ظهراني الأمة في الشمال والجنوب والشرق والغرب! وفي ظل استمرار النزاع العربي الإسرائيلي واحتلال إسرائيل لأجزاء من دول عربية، وما يهدد بتمزق بعض البلدان العربية الموحدة مثل اليمن والسودان والعراق، ولربما مناطق أخرى نعتبرها أكثر تماسكاً وأمناً. ذلك أن الأمة ليس لها رأي في أقدارها، وظلت الدول هي التي تتحكم بالمصير والأقدار ووضع الحلول. ولربما اختلاق مشاكل الأمة أيضاً. إن معارض الكتب فرصة ثمينة لتدارس هموم الأمة، والاستماع للآخرين مهما اختلفنا معهم. بل والاستماع إلى الفئة المُغيّبة من أبناء الأمة الذين "تقصيهم" بعض الأنظمة بمجرد أن يأتوا برأي مخالف للرأي الرسمي وإن كان في صالح الأمة. إن الأمة مدعوّة إلى حوار عاقل غير متشنج وغير أحادي النظرة يتجاوز مقولات "من لم يكن معي فهو عدوي، ومن خالفني الرأي فهو مارق، ومن خالف طائفتي أو مذهبي فيحق عليه القتل" وغير ذلك من النماذج والتخريجات السياسية الطائفية والإقصائية التي يجب أن تعالجها الكتب ومعارض الكتب. كما ينبغي تنقية المطبوع والعقول من "ثقافة الكراهية" التي ظلت دهوراً متغلغلة في بعض الكتب الصفراء وفي الأدمغة المختومة بخاتم التاريخ الصدئ! إننا نأمل أن تخرج معارض الكتب العربية عن نماذجها التقليدية كبيع وشراء إلى فضاءات أرحب، بحيث تساهم في الحراك الثقافي الفكري الذي تعجز عنه أحياناً الجهات الرسمية المسؤولة عن الثقافة! ونناقش قضايانا اللحوحة، وهذا هو الذي يخلق الآفاق الرحبة لتنمية بشرية تحتاجها الأمة، دون اقتصار التنمية على شطرها الاقتصادي فقط.