يحتاج العالم لقواعد جديدة لمنع الدول المختلفة من التلاعب بقيمة عملاتها من أجل الحصول على مزايا تصديرية. وإذا لم تتم كتابة تلك القواعد، فإن الاحتكاكات التجارية المتزايدة التي نشهدها حالياً قد تحتدم وتتطور إلى حرب تجارية منهكة. هذا هو الهم الرئيس لبعض الاقتصاديين، وعلى وجه الخصوص الأميركيين الذين يهولهم العجز الكبير في ميزان المدفوعات الأميركي (نحو 500 مليار دولار هذا العام)، كما يهولهم الفائض الكبير في الميزان التجاري للصين. والزيادة الطفيفة (4 في المئة) التي أعلنت مؤخراً وبشكل مفاجئ في معدل الفائدة في الصين، والتي تجعل عملة البلاد (اليوان) أكثر جاذبية، يمكن أن تؤدي لرفع قيمته مقابل العملات الأخرى. وهذا الإجراء سيسعد الولايات المتحدة، لكن ذلك لا يكفي في رأيها لمعالجة الخلل. وربما كان ذلك هو السبب الذي دعا وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية في مجموعة الدول العشرين الكبرى للاجتماع في كوريا الجنوبية لإجراء مزيد من التعديلات في سوق العملات، بغية إعادة التوازن مرة أخرى للاقتصاد العالمي الذي هزته الأزمة المالية الأخيرة بعنف، وإن لم يحققوا كل المطلوبات في هذا المجال. "نحن بحاجة ماسة إلى بريتون وودز جديدة"، هذا ما يقوله "تشارلز ماكميلون"، الاستشاري الاقتصادي الأميركي في واشنطن. ومن المعروف أن ما عرف بـتجمع "نيوهمبشاير الجديدة" الذي ضم الدول الصناعية الكبرى، هو الذي صاغ، إبان الحرب العالمية الثانية، معاهدة "بريتون وودز" التي حددت معالم النظام النقدي العالمي القائم على أسعار صرف العملات الثابتة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية وحتى الآن. وعندما تبين فيما بعد أن تلك المعدلات لم تعد تعكس الحقيقة، اجتمعت تلك الدول مرة أخرى عام 1973، لصياغة اتفاقية "سميثونيان" التي سمحت للولايات المتحدة بإجراء تخفيض طفيف على الدولار مما حسّن القدرات التصديرية لها ودعا الرئيس الأميركي آنذاك، نيكسون، للثناء على تلك الاتفاقية، ووصفها بأنها "أعظم اتفاقية مالية في تاريخ العالم". لكن التطورات أثبتت فيما بعد أن تقييم نيكسون لم يكن سليماً حيث لم تستمر الاتفاقية سوى أربعة عشر شهراً فقط، انهار بعدها نظم أسعار العملات الثابتة، ليحل محله نظام تعويم العملات الذي يعتمد فيه تحديد سعر الدولار وغيره من العملات الرئيسية على عنصري العرض والطلب في الأسواق المالية. وعند تطبيق هذا النظام فقد الدولار 20 في المئة من قيمته على الفور، وهو ما ساعد على إعادة التوازن للتجارة العالمية. لكن "اتفاقية سميثونيان" تركت وراءها إرثاً مزعجاً. فنتيجة لأن الاتفاقية لم تكن تضم الدول النامية، فإن معظم تلك الدول، لا تزال تواصل تحديد سعر عملتها من خلال التدخل في السوق. ونتج عن ذلك أن دولاً مثل اليابان، وبعدها الصين، استغلت هذه الثغرة، وأبقت سعر عملاتها منخفضاً لتعزيز صادراتها ودعم صناعاتها. وفي عام 1985، وضعت "اتفاقية بلازا" التي وقعت من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا الغربية وبريطانيا واليابان، نهايةً فعلية لإساءة استغلال نظام العملات من قبل اليابان. وبحلول عام 1987، فقد الدولار 51 في المئة من قيمته مقابل الين، مما جعل قدرة الصادرات اليابانية على المنافسة أقل بكثير مما كانت عليه من قبل. وهنا يقفز إلى الذهن سؤال هو: هل حان الوقت لقيام الصين بالقبول بإجراء خفض كبير لقيمة عملتها؟ يقدر "جون ويليامسون"، الباحث في معد "بيترسون" للاقتصاد الدولي في واشنطن، أن اليوان مقدر أقل من قيمته الحقيقية بنسبة 24 في المئة مقابل الدولار، وبنسبة12 في المئة أقل من مجموعة من العملات الدولية الأخرى، وأن هذا التخفيض في القيمة الحقيقية لليوان قد كلف الولايات المتحدة 500 ألف وظيفة على أقل تقدير. ويقول "ماكميلان" الذي سبقت الإشارة إليه، إن القيمة الحالية لليوان أقل من قيمته الحقيقية مقابل الدولار بنسبة تتراوح بين 60 و70 في المئة على افتراض تساوي القدرة الشرائية للعملتين، لكن "ماكميلان" يشك في إقدام أوباما على فعل شيء ذي شأن لمعالجة هذا الأمر. ويشار في هذا السياق أن مجلس النواب الأميركي قد مرر في الشهر الماضي مشروع قرار يمنح وزارة التجارة الأميركية الصلاحية لتقييم نظام يتم بموجبه فرض رسوم على الواردات الصينية للولايات المتحدة، إذا ما رأت واشنطن في أي وقت أن ممارسات بكين توفر دعماً غير عادل لعملتها مقابل الدولار. ومن المعروف أن البيت الأبيض قد ضغط على الصين طيلة شهور لإعادة تقييم عملتها، وجعل سعرها أعلى مما هو عليه بالفعل، لكنه لم يحقق سوى نجاح محدود في ذلك، حتى وقت كتابة هذه السطور على الأقل. هل يدل ذلك على قرب وقوع حرب تجارية، أو على الأقل فترة من المنافسة بين الدول المختلفة على تخفيض قيمة عملاتها من أجل تنشيط صادراتها وتعزيز اقتصاداتها؟ ربما لا! هذا ما يقوله "جون ويليامسون"، لأن ذلك في رأيه سوف يضر بجميع المشاركين في تلك المعركة من الناحية الاقتصادية، ولن يكون معروفاً "من الذي سيعاني بسببها أكثر من الآخر". ------ ديفيد آر فرانسيس كاتب ومحلل اقتصادي أميركي ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"