يقول الفيزيائيون ألا شيء فارغ في الكون، فكله وحتى وإنْ ظهرت فراغات كبيرة فيه للوهلة الأولى، فإنه مليء بالثقوب السوداء ونطاقها الواسع الجاذب، وبالمجرات البعيدة جداً والسديم الذي لا حدود له. هذا الأمر ينطبق على السياسة كذلك، فلا فراغ في العمل السياسي والقيادي في أي بلد، وإن ظهر للوهلة الأولى – كما في الكون – بـأن هذا ليس بصحيح، فسرعان ما نكتشف بأن قيادات تدبير الأمور هنا وهناك تعيش في أزمة تعطيل وتشتت. لنقرب المسألة أكثر: لو أن أحدنا فر من مطارديه القتلة، فما الأمر الأول والأهم الذي يفكر فيه هذا المطارد، وراغبو هلاكه يتبعون أثره بلا كلل ولا ملل؟ الجواب المنطقي: هو أن يجد مكاناً آمناً للاحتماء به ومن ثم التفكير بالرد على من يريد الفتك به. منظمات الإرهاب والقتل الجماعي والمختبئون وراء الأقنعة المتعددة الأوجه تعيش أزمة هذا المطارد المثال. الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية تطارد فلولهم، وهم يريدون ملجأ للاختباء والرد، وهذا الملجأ في هذه الحالة هي دولة يطلق عليها البعض بـ"الفاشلة" أو "المقصرة" أو "الضعيفة"، ففي مناطقها الوعرة المنعزلة، وبين بعض سكانها يجد الإرهابيون الحصن والملجأ وأماكن التجمع والتخطيط لعمليات مقابلة. أفغانستان والصومال خير مثال على هذا، وبدرجة أقل العراق، وبدرجة أدنى، ولكنها مرشحة للتصاعد.. اليمن الذي كان سعيداً. قبل أيام اكتشف العالم أن عشرات الطرود البريدية ترسل من اليمن وقد حُملت بالمتفجرات والصواعق، وذلك للفتك بهذا المعني إنساناً كان أو مكاناً، ومن ثم أُوقفت جميع التعاملات البريدية عبر الطرود من وإلى اليمن، وكذلك بعض الرحلات التجارية من البلد المعني وله. منذ ذلك الحين، بل وقبل ذلك بأشهر، أصبح اليمن يمثل مشكلة للعالم ولبعض جيرانه، أما العرب وجامعتهم العربية فإنهم آخر من يعلم، أو أول من يعلم، أو لا يعمل شيئاً لإنقاذ اليمن من نفسه، ومن هجمة أخرى عالمية عليه بداعي محاربة الإرهاب واقتلاع منظمات القتل المنظم منه. لكن ألم نسأل أنفسنا: كيف وصل اليمن إلى هذه الحالة المرضية التي كثر فيها الأطباء، فيعرض بعضهم التداوي عبر المسكنات والآخر من خلال بتر الأعضاء؟! إذا نحن استثنينا عوامل البيئة الجغرافية من وعورة تضاريس متمثلة في الجبال الشاهقة، والكهوف والوديان السحيقة، والغابات المطرية، والسواحل الممتدة التي تجعل تهريب الأسلحة أمراً في غاية السهولة، إن نحن عزلنا هذه العوامل في أفغانستان واليمن والقرن الأفريقي وبعض جبال أطلس، فإننا أمام عوامل أخرى دفعت الإرهابيين لأن يجدوا في البلدان التي تدفع في كل يوم الأخبار العاجلة إلى شاشات التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى: هناك الاضطراب السياسي وتفشي روح القبلية وعصبية المناطق على حساب الدولة الأم الراعية للجميع، وهناك الفساد بكل أشكاله وألوانه والذي يجعل من زراعة المواد المخدرة – مثلاً - أمراً شائعاً وغير مستغرب، ويجعل من تمرجح ذمم المقاتلين بين الصباح والمساء وانشغال الحكومات المركزية بهموم أخرى بعيدة عن الشفافية وحسن الإدارة المالية للبلاد، فضلاً عن العدالة الاجتماعية والتثوير التنموي. ...وأفغانستان تئن من وطأة قنابل "طالبان" و"القاعدة"، كان مدير مكتب الرئيس (كرزاي) يتلقى الملايين من العملة الأوروبية من بلد جار لأفغانستان تحشر داخل أكياس النفايات، ويبرر رئيسه هذا بأن ذلك أمرٌ مشروع لمواجهة متطلبات القصر الرئاسي في كابول! هل تعتقد عزيزي القارئ بعد هذا المثال البسيط قياساً على أمثلة أكثر سقوطاً أخلاقياً:، ألا تكون لـ"القاعدة" ولمنظمات القتل الجماعي الأخرى ملاذات آمنة في مثل بلدان أكياس النايلون المليئة باليورو ؟ لماذا لا تتواجد "القاعدة" في ماليزيا مثلاً، وإن حدث اختراق هنا وهناك في هذا البلد، فإن هذا شذوذ القاعدة ليس إلا؟ إن خير إنقاذ للعالم من شرور القنابل التي تُرسل مرةً عبر البريد، ومرةً أخرى عبر الطائرات وأحذية المسافرين، وما بين هذا وذاك من سيارات وحقائب مفخخة في الأنفاق والقطارات العلوية والسفلية، هو محاولة بلدان العالم المعني عامة وبلدان الأقاليم المجاورة خاصةً انتشال هذه البلدان المبتلاة بالإرهاب وباحتضانه، من شر ما فيها ومن سوء تدبير لقضايا تبدأ صغيرة مثل خبز الصباح المضروب وحتى صراخ الصغار ليلاً الفزعين من الأمن المفقود. لن تفيد كثيراً وطويلاً الطائرات المحلقة بدون طيار التي تقصف ملاجئ الإرهابيين، ولن يفد كثيراً وطويلاً فرق "الكوماندوز" ومشاة البحرية التي تداهم هذه البيوت أو تلك، ولن تفيد كثيراً وطويلاً خبراء تفتيش الرحلات الجوية والنقل البريدي السريع، ما سيجعل البلد التي نحار في وضعها وتسميتها، تتعافى أمنياً واجتماعياً واقتصادياً، هي تلك الحزمة التي لا تنفك من العقد الاجتماعي المتين، والعدالة في توزيع الثروات بين الطبقات والمناطق والأعراق، إلى جانب الخروج من دهاليز التخلف الاجتماعي والعلمي والاقتصادي والاهتمام بحقوق الإنسان شكلاً وموضوعاً، والأخذ من حيث وصلت إليه الأمم تفوقاً وليس استحضار التاريخ للبكاء عليه وحوله، وقبل ذلك وبعده الاهتمام بالإنسان الذي يُبدع ويزرع ويبني ويقيم المصانع ويكتشف ويناقش ويختار، وليس ذلك الإنسان المقموع الغارق في الجهالة والظلم وعدمية الأمل في غدٍ مشرق. دون ذلك سنسمع عن عمليات قنابل البريد وسيارات الأنفاق وطائرات الأبراج والأحزمة الناسفة المحشورة في أماكن حساسة داخل الأجسام المليئة بالمتفجرات والغيظ والجهل. لا فراغ في الكون.. ولا فراغ في السياسة كذلك، أكد القول الأول علماء الفيزياء، وأكدت أحداث الساعة القول الثاني.