في أسبوع واحد، غادر المشهد السياسي في أميركا اللاتينية اثنان من أبرز رموزه: الرئيس الأرجنتيني السابق "نستور كريشنر" الذي غيبه الموت، والرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا"، الذي أنهى دورتيه الدستوريتين في الحكم. خلف أولهما زوجته وشريكته السياسية التي تقلدت مقاليد السلطة في عام 2007 ، وخلف ثانيهما نائبته وتلميذته "دليما روسيف" التي وصلت للحكم بالاستفادة من شعبيته الهائلة. في الحالتين، نحن أمام مثالين بارزين على مسار التحول السياسي والتنموي الناجح في منطقة أميركا الجنوبية، التي كانت إلى عهد قريب تشبه أوضاع بلداننا العربية في كل شيء، ثم حدثت الطفرة المفاجئة، فانتقلت دول المنطقة (باستثناء كوبا) إلى نمط الديمقراطية التعددية المستقرة، وحققت إقلاعاً تنموياً مثيراً، وأصبحت بعض بلدانها (كالبرازيل) تعد من القوى الدولية الصاعدة. ما سر هذا التحول المفاجئ؟ ولماذا نجح اللاتينيون الأميركيون في ما أخفقنا فيه، على الرغم من التماثل شبه الكامل بين المنطقتين؟ لا بد من التذكير أن بلدان أميركا الجنوبية مرت بنفس المراحل الكبرى التي مر بها العالم العربي. عرفت الاستعمار الأوروبي في شكله الاستيطاني المكثف ونهبه للثروات الوطنية وتدميره للشعوب الأصلية وأنماطها المعيشية. ثم شهدت المنطقة حركات المقاومة الشعبية، وانبثقت فيها نزعة قومية اندماجية (النزعة البوليفارية) على غرار الأيديولوجيا القومية العربية. وفي الستينيات هيمنت التيارات "اليسارية" والماركسية على الساحة السياسية وارتبطت بالزعيم الأرجنتيني الحالم "غيفارا" وبالثورة الكوبية. على غرار العديد من البلدان العربية، تحكمت المؤسسة العسكرية في السلطة في عموم البلدان الأميركية اللاتينية وأقامت ديكتاتوريات عاتية. وفي ثمانينيات القرن المنصرم، وصلت الأوضاع الاقتصادية إلى أقصى درجات الانهيار مخلفة أزمات اجتماعية مريعة. خضعت بلدان المنطقة لبرامج صندوق النقد والبنك الدوليين، وغدت مختبراً للإصلاحات النيوليبرالية التي فشلت في انتشال الأوضاع الاقتصادية من التدهور. وكانت الأزمة المكسيكية عام 1994 مؤشراً على إخفاق سياسات الخصخصة العمياء والارتباط غير المقيد بمراكز الاقتصاد الرأسمالي. ما الذي حدث إذن حتى تحولت الدول الأميركية الجنوبية إلى نظام الحكم الديمقراطي التعددي وأسلوب التنمية الاقتصادية والاجتماعية الناجعة؟ بدأت إرهاصات التحول الديمقراطي منذ نهاية الثمانينيات، وأخذت شكل توافقات مرحلية بين القوى السياسية والمؤسسة العسكرية التي رضيت بالانسحاب من دائرة الحكم، بدءاً بالأرجنتين التي مني حكامها بالهزيمة في حرب المالوين عام 1982 في مواجهة القوات البريطانية، فتنحوا من السلطة في السنة الموالية. تضمنت الصفقات الموقعة مع العسكريين احتفاظهم في مرحلة أولى ببعض التأثير والنفوذ، وصلت في بعض الأحيان كما هو الحال في تشيلي إلى احتفاظ الرئيس العسكري السابق بقيادة أركان الجيش وبعشرين في المائة من أعضاء مجلس الشيوخ الموالين له. إلا أن الحكومات الديمقراطية الأولى كانت مجرد أحكام انتقالية، بدت عاجزة عن دفع العجلة التنموية وحل الأزمات الاجتماعية المتفاقمة، كما أنها عانت من شوائب الفساد المالي والإداري. وقد حدث التحول الحقيقي في نهاية التسعينيات ومطلع القرن الجديد بصعود زعامات "اليسار الجديد" التي تمت على يدها الطفرة الحالية. ومن أبرز هؤلاء الزعماء "لولا دسيلفا " في البرازيل الذي وصل للحكم سنة 2002، و"نستور كريشنر" في الأرجنتين (2003) و"تاباري فاسكيز" في الأورغواي (2005) و"إيفو موراليس" في بوليفيا (2005) . وإذا استثنينا الزعيم الفنزويلي "شافيز" الذي يمثل حالة استثنائية شبيهة بالراديكالية الشعبوية المألوفة عربياً، فإن "اليسار" اللاتيني الأميركي الجديد يتمتع بخصوصيات وسمات مميزة تفسر أسباب صعوده ونجاحه. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى السمتين الأبرز في هذا النموذج : أولى هذه السمات تتعلق بامتزاج المكون الأيديولوجي الاجتماعي بالمكون القومي المجموعاتي في بلدان عانت من أزمتي الهوية والفقر. فأبرز الزعامات المذكورة تنحدر من التنظيمات الأهلية المدافعة عن مطالب وحقوق السكان الأصليين (موراليس)، أو من التنظيمات النقابية والعمالية (لولا دا سيلفا...)، وقد شاركت في قيادة الحركات الاجتماعية النشطة التي أطرت الحراك السياسي في بلدان المنطقة (عرفت الأرجنتين والسلفادور وغواتيمالا على الأخص حركات تمرد مسلحة عنيفة). أما السمة الثانية، فهي انبثاق وسط ثقافي وفكري رصين حاضن لهذه الطبقة السياسية الجديدة، التي تفتقر في الغالب لخلفيات أكاديمية. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن المدرسة "اليسارية" في أميركا اللاتينية حافظت على حيويتها، واستطاعت أن تتجدد وتتحرر من القوالب الماركسية التقليدية وانفتحت على المؤسسة الدينية، ووظفت القاموس اللاهوتي في أنماطها التعبيرية والمفهومية (لاهوت التحرر ). كما أن "اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية" التابعة لهيئة الأمم المتحدة (ومقرها في سانتياغو ) بلورت منذ التسعينيات مقاربات تنموية بديلة، تمحورت حول نقد النيوليبرالية ونظرية التجارة الدولية، طارحة نموذج التفكير في حركية التبادل من محور الأطراف وليس المركز، من منطلق بروز أقطاب صناعية جديدة في بلدان الجنوب قادرة على إنشاء "اقتصاد – عالم " بديل. أظهرت هذه الديناميكية الفكرية حيويتها العالية خلال منتديات "بورت إليجرو" التي تشكلت احتجاجاً على اجتماعات كتلة الثماني الصناعية، وإن كانت الحكومات "اليسارية" اللاتينية الأميركية لم تنسق وراء الشعارات الثورية الراديكالية المناهضة للعولمة. وبالمقارنة مع الوضع اللاتيني الأميركي، نلاحظ أن عوائق التحول الديمقراطي في العالم العربي تركزت في عاملين رئيسيين نشير إليهما باقتضاب: - عجز النخب السياسية عن إدارة الحوار المنشود مع المؤسسة العسكرية لإخراجها من دائرة القرار والحكم، بل إن ما حدث هو تحالف المثقف "اليساري" مع هذه المؤسسة في مواجهة "الخصمين المشتركين": التقليدي الأهلي والأصولي المتطرف. وتجذرت قبضة المؤسسة العسكرية وتكيفت مع قواعد اللعبة السياسية، وأمنت استمراريتها من خلال مسالك التوريث العتيقة. - ضعف الحركات الاجتماعية وتآكلها، مما انعكس سلباً على الحراك السياسي، ومن تجليات هذا الانسداد ضعف التشكيلات الحزبية وانحسار زخمها الفكري والإيديولوجي وتضاؤل قاعدتها المجتمعية. ولهذا العامل علاقة بخصوصية الأوضاع الاقتصادية والتنموية، مما لا يتسع المقام لتفصيله.