يتأهب العالم قريباً للاحتفال بمرور 150على ميلاد عميد الأدب الهندي، والأديب الآسيوي الوحيد الفائز حتى الآن بجائزة نوبل للأدب (1913) "رابندراناث طاغور". ولعل ما لا يعرفه الكثيرون أن الرجل لم يكن فقط فيلسوفاً وشاعراً وأديباً، وإنما كان أيضاً موهوباً في عدد من حقول الإبداع، كالفلسفة والرسم والمسرح والموسيقى والتأليف الغنائي والتعليم والإصلاح الاجتماعي، والترحال. وهو لئن لم يدخل عالم الرسم إلا في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته، من خلال كتاب في الشعر صدر له عام 1924 واحتوى على رسومات بريشته مما عـُدّ دليلاً على قدرته على التعبير من خلال الصور، فإنه ولج عالمي الموسيقى والتأليف الغنائي في مرحلة مبكرة، إيماناً منه بأن الإيقاع أو ما سماه "الحركة الصادرة من الضبط المتناغم" هو القوة الخلاقة التي تعطي المرء إحساساً دائماً بالحقيقة. والواقع أن مؤلفات طاغور الموسيقية، التي تجاوزت 300 أغنية، مرت بثلاث مراحل: ألـّف في الأولى أغانيه متأثراً بالموسيقى الكلاسيكية الهندية وبعض الموسيقى الغربية، والتزم في الثانية بالبناء الكلاسيكي مع إضافة بعض لمساته الخاصة النابعة من خبرته، ووضع في الثالثة ألحاناً بأسلوبه الخاص المتميز الذي عـُرف باسم "رابندرا سانجيت". أما اهتمامه بالتأليف الغنائي (كتب ألفي أغنية) فنابع من إيمانه بأن "الأغنية المثالية عبارة عن زواج ناجح ما بين الكلمات والألحان" على نحو ما قال. وفي هذا المقام يكفي طاغور فخراً أنه الشاعر الوحيد الذي قام بتأليف النشيد الوطني لدولتين، وهما "أمار شونار" لبنجلاديش، و"جاناجانا مانا"للهند. وبالنسبة لدوره في التعليم والإصلاح الاجتماعي، فتكفي الإشارة إلى قيامه، هو المتسرب من المدرسة" بإنشاء مدرسة متميزة في "سانتينيكيتان" بدأها بخمسة تلاميذ في 1901. تلك المدرسة التي أرادها أن تكون على غرار الصومعة التي وجدت في الهند القديمة. وفي هذا السياق يقول "أودايا نارينانا سينج" أن أحداً لم يكن يفكر في الهند في بداية القرن العشرين، عندما بدأ النموذج الغربي للتعليم بدخول البلاد، بالتعليم المتكامل، أي ذلك الذي يمكن أن يمنح المتلقي فرصة التعليم من خلال الاتحاد بين الإنسان والطبيعة، وبين المعلم والتلميذ، وبين الفنون الحرة والفنون التشكيلية. ويمكننا هنا أن نضيف أن الرجل لم يكن ضد الحداثة والعصرنة، وإنما كان يريد من فكرة "الصومعة" أن يقترب من الطبيعة ويبتعد عن صخب حياة المدينة، وأن يؤسس لعلاقة وثيقة بين المعلم وتلميذه شبيهة بعلاقة التلميذ بأسرته، وأن يشجع التلاميذ على التفكير المستقل وصولاً إلى معرفة الحقيقة العليا. إضافة إلى ترسيخ مفهوم أن التعليم ليس مجرد أداء للحصول على عمل أو دخل، وإنما وسيلة لتفجير طاقات المرء الفكرية والعاطفية والنفسية والبدنية. ومما لا شك فيه أن الرحلات الطويلة التي قام بها طاغور إلى الخارج، والتي بدأها في 1878 بالسفر إلى لندن لدراسة القانون، وأتبعها بالتجول في بريطانيا وفرنسا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا وهولندا وبلجيكا وألمانيا والدنمارك والسويد، قبل أن يحل في أميركا ويزور شيكاغو وبوسطن ونيويورك وسياتل وفيلاديلفيا في عامي 1913 و1916، وقبل أن يزور بورما واليابان عام 1916، والصين في 1924، وإيطاليا والأرجنتين في 1926، ودول جنوب شرق آسيا في 1927، وروسيا في 1932، وإيران في 1932، كان لها أكبر الأثر في اتساع أفقه، وتحرره، وانشغاله بجملة من القضايا المعاصرة مثل: الحرب والسلام، وتحرير المرأة، وتنمية الريف، ومكافحة النزعات القومية والعنصرية، خصوصاً أنه التقى في كل تلك الدول بخيرة مبدعيها، إضافة إلى قادتها وساستها، وتناقش معهم، مستلهماً منهم تجاربهم الثرية وفلسفاتهم الخاصة. ولئن كان قد عـُرف عن عائلة "طاغور" أنها لعبت دوراً أساسياً في معظم التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها البنغال خلال القرن 19، وعلى رأسه قضية تحرير المرأة البنغالية من أغلالها ااجتماعية، وبالتالي السماح لها بالتعليم والعمل والسفر بمفردها، وارتدائها لملابس ملاءمة للخروج والقيام بأعباء العمل، فإن "طاغور" عزّز من هذه الإصلاحات بمجرد عودته من رحلته إلى أوروبا، وذلك من خلال سلسلة من الخطب والمقالات التي قارن فيها بين الاختلاط الحر ما بين الجنسين في إنجلترا، وعزلة البنغاليات اللواتي كن وقتذاك حبيسات البرقع والمنزل. وقد تعزز هذا المنحى لدى الرجل أكثر حينما أرسلته عائلته إلى الأرياف لإدارة ممتلكاتها. إذ تعرف هناك بشكل مباشر على معاناة الريفيات وما يتعرضن له من ظلم، فألف سلسلة من القصص حول نظام المهور الظالم، وزواج القاصرات، ومآسي الأيتام واللقطاء، وحظر العائلات لاشتغال بناتها في التمثيل المسرحي، وغيرها من القضايا التي شجعت البنغاليات على رفع أصواتهن والمطالبة بحقوقهن. وفي هذا السياق يقول طاغور: "إن الإبقاء على المرأة خلف البرقع ليس نتيجة لأنانية الرجل، ولكنه نتيجة للمتطلبات التي تفرضها الواجبات المنزلية. وهذا عذر قديم جداً يقدمه هؤلاء الذين يقاومون تحرير المرأة. إني أعتقد أن احتجاب المرأة والإبقاء عليها أسيرة الجدران مدى الحياة هو أمر شاذ". وأثناء عمله في الأرياف اكتشف طاغور مدى معاناة تلك المناطق من الفقر وشح الخدمات، ومدى انقسام طبقة الصفوة على نفسها لتضارب مصالح أفرادها، فقرر أن يعمل شخصياً على إيجاد بعض الحلول، معتمداً في ذلك على مجموعة من الشباب المتطوعين المستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل الصالح العام. وقد نجح هؤلاء في إنشاء الطرق والمدارس وخزانات المياه ومحطات الصرف الصحي وتحسين الإنتاج الزراعي، فضلاً عن إشاعتهم للموسيقى الشعبية وسط الناس، الأمر الذي أعاد إلى القرية البنغالية حياتها ورونقها. وعلى الرغم من ارتباط اسم طاغور باسم غاندي كرمزين كبيرين في تاريخ الهند الحديث، فإن الرجلين كانا يمتلكان رؤى متباينة حول قضايا عديدة. فمثلاً اختلفا حول النزعة القومية التي كان طاغور يحاربها ، فيما كان غاندى يدافع عنها، إيمانا منه بأن المرء يجب أن يمر بمرحلة المغالاة في النزعة القومية حتى يصل إلى الإيمان بالمبادئ العالمية. وربما لهذا كتب "نهرو"، الذي كان صديقاً للرجلين، في مذكراته "من الأفضل لطاغور أنه مات قبل أن يرى مشكلات الهند من جوع وفقر، وقد زاد عليها التحريض والعنف الطائفيان والتقسيم". د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين elmadani@batelco.com.bh