في مثل هذه الأيّام قبل خمسة عشر عاماً، صوّب الإسرائيليّ إيغال عمير رصاصه إلى اسحق رابين فأرداه قتيلاً. ذاك أنّ رابين، في نظر قاتله، خائن ومفرّط بقضيّة إسرائيل واليهود لأنّه كان قد وقّع اتّفاق أوسلو للسلام مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة. مقتل رابين لم يكن حدثاً مفصليّاً في حياة الرجل ودولته فحسب، بل كان كذلك في حياة منطقة الشرق الأوسط ككلّ حيث ما لبث التوجّه السلميّ الذي انطلق في أوسلو عام 1993 أن انتكس وتدهور. سيرة رابين، وهو أوّل رئيس حكومة إسرائيليّ يولد في الدولة العبريّة، تبدأ بالتطرّف لكنّها تنتهي بالاعتدال. كان ضابطاً في البالماخ، الذراع العسكريّة لحزب العمل المتفرّعة عن منظّمة الهاغانا، يعمل في ظلّ القياديّ الصهيونيّ والعمّاليّ إيغال ألون. وبصفته هذه شارك في حرب 1948، قبل أن يشارك كرئيس لأركان الجيش في حرب "الأيّام الستّة" عام 1967. وبعد عقدين، وكوزير للدفاع، ساهم، بقسوة في قمع الانتفاضة التي اندلعت أواخر 1987 حتّى لُقّب بـ"كاسر العظام". بيد أنّ رابين ما لبث أن كشف عن وجهه الآخر بُعيد تولّيه رئاسة الحكومة إثر الانتصار الانتخابيّ لحزبه عام 1992، فضُمّ اسمه إلى قائمة السياسيّين الذين غيّرتهم اعتبارات براغماتيّة. وكان في عداد هؤلاء اثنان على الأقلّ: الرئيس الفرنسيّ ديغول الذي عُرف بحماسته لإبقاء الجزائر "فرنسيّة"، قبل أن يغدو هو نفسه مانح الاستقلال للجزائر، فيتعرّض، بسبب ذلك، لمحاولة اغتيال ومحاولتين انقلابيّتين. ورئيس حكومة جنوب أفريقيا العنصريّة دي كليرك الذي شارك مانديلاّ في تفكيك النظام العنصريّ وتحرير بلده من ربقته. وعلى أيّة حال، عرفت حياة رابين في طورها المتطرّف تمرينين مبكرين على الاعتدال: فهو، من جهة، عمل لسنوات طويلة سفيراً لبلاده في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهناك تعرّف عن كثب إلى أنّ العالم لا يُحكَم بالقوّة وحدها، بل لابدّ لهذا الغرض من الديبلوماسيّة والمرونة. كما أنّه، من جهة أخرى، وإبّان تولّيه رئاسة الحكومة للمرّة الأولى، عام 1974، وقّع على اتّفاقيّة فصل القوّات مع مصر، في 1 سبتمبر 1975، هي التي توّجت "الديبلوماسيّة المكوكيّة" لوزير الخارجيّة الأميركيّ هنري كسينجر، كما مهّدت لمعاهدتي كامب ديفيد (1978 و1979). بيد أنّ الطور السلميّ من حياة رابين ابتدأ جدّيّاً عام 1992. هكذا أقدم بُعيد تشكيله الحكومة على تعيين مندوب له، هو إيتامار رابينوفيتش، كي يتولّى متابعة احتمالات التفاوض والسلام مع سوريا. وبالفعل، ومن خلال وزير الخارجيّة الأميركيّ يومذاك، كريستوفر، أوصل رابين رسالة شفويّة للراحل حافظ الأسد عُرفت لاحقاً باسم "وديعة رابين"، مفادها الاستعداد الإسرائيليّ للانسحاب من هضبة الجولان السوريّة مقابل السلام والأمن. وعلى ضوء ذاك التطوّر الخطير، انعقدت، للمرّة الأولى، مفاوضات مشتركة بين الجانبين برعاية أميركيّة، تولّى معظمها رئيسا أركان الجيشين ومندوبا البلدين في الأمم المتّحدة، كما تشكّلت لجان أمنيّة للمتابعة والاستكمال. وهذا إنّما كان نقلة نوعيّة كبرى ليس فقط بسبب العجز عن إنجاح التفاوض المشترك في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، أو ما تلاه، بل كذلك بالنظر إلى أنّ رئيس الحكومة الليكوديّ بيجن كان قد أقدم في أواخر عام 1981 على إعلان ضمّ هضبة الجولان إلى إسرائيل متحدّياً العالم بأسره. لكنّ المكسب الرابينيّ الأكبر هو ما تجسّد في اتّفاقيّة أوسلو التي وُقّعت في النرويج ثم كُرّس توقيعها في حديقة البيت الأبيض بحضور الرئيس كلينتون إلى جانب رابين ووزير خارجيّته بيريس ورئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة ياسر عرفات. هذه الاتّفاقيّة التي استحقّ الثلاثة الأخيرون بسببها جائزة نوبل للسلام، هي التي أسّست لقيام السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة في الضفّة والقطاع. والراهن أنّ السلام كان قد وُضع على الطاولة مع نهاية الحرب الباردة. فإذا أحسّ الفلسطينيّون بأنّ تداعيات حرب تحرير الكويت وتهاوي الاتّحاد السوفييتيّ تدفع في الاتّجاه هذا، أحسّ الإسرائيليّون كذلك بأكلاف العنف في الانتفاضة الأولى وبضرورة الالتفات إلى الثمار الاقتصادية للعولمة الناشئة. ثم إن حرب الخليج أقنعتهم بأنّ الأرض بذاتها ليست عاملاً ردعيّاً كافياً، بل إن التفوّق في سلاح الجوّ، قد يكون أضمن من الرقع الجغرافيّة. لقد أسست أوسلو لمبدأ السلام مقابل الأرض، ومن ثمّ إقامة سلطة وطنيّة فلسطينيّة تنهض موازنتها على معونات دوليّة يؤمّن الأوروبيّون جزأها الأكبر. وعملاً بموجبات المرحلة الأولى، انسحب الإسرائيليون من 40 في المئة من الضفّة وغزّة، وأقام الفلسطينيّون سلطتهم غير المسبوقة على مساحة متواضعة من أرض فلسطين تناهز الألف كيلومتر مربّع. وبموجب أوسلو، عاد عرفات إلى الضفّة صيف 1994 كما عاد عشرات الآلاف من كوادر المنظّمة وناشطيها. لقد كانت أوسلو بمثابة مسوّدة لا تخلو من غموض وحاجة إلى التدقيق، لكنها بدت مدعاة تفاؤل لاسيّما بقياس آلام استمرار الصراع، وبالأخصّ بقياس أكلافه على الفلسطينيّين الذين لا يتيح لهم توازن القوى ما حصلوا عليه. وبالزخم السلميّ الذي أطلقته أوسلو، أمكن في العام التالي توقيع اتّفاقيّة سلام أخرى مع الأردن (وادي عربة). لقد نجحت رصاصة إيغال عمير في القضاء على هذا كلّه، بحيث شرعت العمليّة السلميّة تترنّح إلى أن أجهزت عليها العمليّات الانتحاريّة لحركة "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" اللتين تولّتا إيصال نتنياهو إلى رئاسة الحكومة في انتخابات 1996. ولئن حاول باراك لاحقاً، وبطريقته، إحياء السياسات الرابينيّة، فإنّ السيف كان قد سبق العذل.