أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في الأسبوع الماضي مبادرة للقادة العراقيين دعاهم فيها لزيارة الرياض وعقد اجتماع توافقي بينهم تحت مظلة الجامعة العربية، يجمع جميع الأحزاب والساسة العراقيين تحت سقف واحد من أجل جمع شملهم وتكوين حكومة وحدة وطنية تحظى بموافقة وتأييد سائر التيارات السياسية في العراق. وقد أيد هذه الدعوة عدد من الحكومات العربية والخليجية كما أيدها الأمين العام للجامعة العربية، والأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وكذلك الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. كما وافق على هذه الدعوة عدد من الأحزاب العراقية ومنها القائمة "العراقية" بقيادة إياد علاوي، كما رحب بها "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" بقيادة عمار الحكيم، ورحب بها كذلك تحالف الوسط الذي يضم "جبهة التوافق" العراقية وائتلاف "وحدة العراق". وكان هناك تردد من قبل الأحزاب الكردية والكتلة الصدرية. غير أن إعلان الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية بأن المبادرة السعودية ليست بديلاً عن مبادرة البرزاني، بل هي مكملة لها، جعلت كلاً من البرزاني والطلباني يعلنان تأييدهما لها. كما أن الكتلة الصدرية، التي أبدت تحفظاً مسبقاً، سرعان ما عادت لتعلن تأييدها لاجتماع الرياض. أما بالنسبة لإيران، ففي البداية لم تكن متحمسة لعقد مثل هذا الاجتماع بين الكتل السياسية العراقية تحت مظلة الجامعة العربية. وسبق أن أعلنت بعض وسائل الإعلام التابعة لها مواقف غير إيجابية منها، لكنها غيرت موقفها أيضاً بعد أيام قليلة ليعلن المتحدث باسم سفارتها في بغداد أن "الجمهورية الإسلامية مع أي جهد ومسعى عربي أو إقليمي أو دولي لإنهاء هذه الأزمة". وبمعنى آخر فإن طهران بدأت تدرك فعلاً أن الكتل والأحزاب العراقية باتت بحاجة إلى مساعدة أشقاء العراق لانتشاله من الشلل السياسي الذي أصابه بسبب عدم نجاح قادته في الالتقاء على برنامج حكومي واحد تلتئم حوله هذه الأحزاب. وبقي حتى الآن موقف ائتلاف "دولة القانون" بقيادة المالكي معارضاً لعقد مثل هذا المؤتمر، على رغم أن بعضاً من أركان حزبه قد أعلن ترحيبه بهذه المبادرة. وينظر البعض إلى هذا الموقف من قبل المالكي على أنه موقف شخصي أكثر من كونه موقفاً حزبيّاً. لقد بنَتْ السياسة الخارجية السعودية توجهاتها الخارجية، مثلها في ذلك مثل بقية دول مجلس التعاون، على أساس إيجاد حلول للمشاكل الإقليمية وإحلال التوافق والسلام بين الكتل السياسية، سواءً كان ذلك في لبنان أو في فلسطين، أو السودان، أو الصومال، وغيرها من دول الجوار. ولم يكن هدف السعودية وشقيقاتها في دول مجلس التعاون الحصول على عائد سياسي أو اقتصادي جراء هذا النشاط الدبلوماسي السلمي، بل هدفت في المقام الأول إلى تعميم أجواء الأمن والاستقرار في بلدان العالم العربي. والسعودية تعتبر نفسها دائماً بيتاً للمسلمين، وحاضنة للعرب، حيث انطلق العرب من رحمهم الأول في الجزيرة العربية، كما يتجه المسلمون إلى مكة المكرمة مصلين خمس مرات في اليوم الواحد. وقد ألقت قدسية المكان على المملكة مسؤولية عظمى في سعيها الحثيث لإقرار السلم ونزع فتيل البغضاء والشقاق بين الصفوات السياسية في العالم العربي. وسواءً قبل الساسة العراقيون بهذه المبادرة أو أعرضوا عنها فإنها تبقى على الطاولة في حال فشلت جهودهم الذاتية في التوصل إلى توافق سياسي. كما أن المبادرة مثلت نوعاً من الضغط المعنوي والأخلاقي السياسي على قادة هذه الأحزاب للتوصل إلى اتفاق طال انتظاره، خاصة في وقت لا زال العراق يعاني فيه من انفلات أمني نتج عنه سقوط أكثر من 2700 ضحية مدنية كل شهر، وذلك خلال الأشهر القليلة الماضية. كما أن حوادث التفجير التي تعرضت لها بغداد خلال هذا الأسبوع، أوضحت بكل جلاء أن إخفاق الساسة العراقيين لا يساعد على استتباب الأمن والاستقرار في هذا البلد العربي الشقيق. ومن ناحية ثانية، فإن عدم الاستقرار السياسي الذي نشهده اليوم في بغداد، والذي استمر طيلة ثمانية أشهر ماضية، يعود في المقام الأول إلى إخفاق الدستور العراقي لعام 2005 في تكوين نظام سياسي مستقر. فالنظام السياسي القائم بكل مثالبه، يمثل نظاماً برلمانيّاً، ولطالما أثبتت الأنظمة البرلمانية عدم قدرتها وفشلها في تكوين حكومات مستقرة. فالتجربة الإيطالية توضح بكل جلاء أن تجربة الحكومات البرلمانية تجارب غير ناجحة وغير مستقرة، وتقود إلى قيام حكومات شبه مشلولة بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرارات سياسية جريئة. وإذا ما أضفنا إشكالات العراق المختلفة منذ بدء الاحتلال عام 2003 وحتى الوقت الحاضر، إلى إشكالات النظام السياسي البرلماني، تجلت لنا حقيقة أن واضعي الدستور العراقي الذي رسموه على غرار الدستور الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية، قد أخطؤوا خطأً فادحاً، حيث إن العراق بحاجة إلى نظام سياسي مستقر. وأغلب الظن أن مثل هذا النظام سيرتكز على بناء نظام رئاسي أكثر استقراراً من مثيله البرلماني. وهذا يعني أن أية حكومة مستقبلية في العراق، عليها أن تعيد النظر في الدستور الحالي الذي يجعل من الحكومة العراقية حكومة أقرب ما تكون للحكومة الكونفدرالية، التي تعطي ثقلاً أكبر للأقاليم والمحافظات على حساب الحكومة المركزية وسلطاتها. وطالما كانت الأطراف أقوى من المركز، فإن المركز سيبقى ضعيفاً ورهينة لإرادة الأطراف، سياسيّاً كان ذلك، أو اقتصاديّاً. ونحن في السعودية وسائر الدول العربية مع العراق وسنبقى أوفياء لشعبه، الذي آن له أن يبحث عن مستقبل مشرق ومستقر، بعيداً عن ولاءات سياسية متضاربة. فمستقبل العراق وأمنه وتطوره وتنميته تتطلب من أصدقاء العراق ومحبيه، قبل أبنائه، أن يقفوا إلى جانبه وإلى جانب شعبه، حتى يصل هذا البلد المنكوب إلى شاطئ الأمان.