لنتخذ من مسألة التغير المناخي نموذجاً لقضية واحدة من القضايا التي تكشف عن طبيعة القوى المتنافسة في انتخابات نوفمبر النصفية الأخيرة، خاصةً وأنها تعد من القضايا الأقل إثارة للجدل والخصومة السياسية. لكن لا يعني ذلك وجود إجماع واسع بين المرشحين حول شدة خطر التغير المناخي أو النشاط البشري المتسبب بها. بل ما نعنيه بكون هذه القضية الأقل إثارة للجدل والخصام السياسي حولها، هو أنها قلما نوقشت أثناء هذه الحملة بسبب التسييس الذي خضعت له في الحوار الأميركي العام. فقد أصبح التشكيك في مدى مساهمة التكنولوجيا البشرية في تسريع خطر التغير المناخي، وكذلك التشكيك في توفر أدلة علمية على وجود الظاهرة نفسها، إلى نوع من العقيدة الحزبية العمياء في أوساط قادة الحزب الجمهوري على الأقل. فمثلاً يقول 19 من بين 20 مرشحاً من مرشحي الحزب الجمهوري الذين يخوضون سباقاً انتخابياً حامياً فيما بينهم، من الذين عبروا عن مواقفهم من مسألة التغير المناخي، إن لهم شكوكاً حول توفر أدلة علمية على وجود الظاهرة من أساسها، رغم الاتفاق الواسع حولها بين العلماء. وتشمل قائمة المتشككين هؤلاء السيناتور جون ماكين -من ولاية أريزونا- الذي سبق أن صوت لصالح تشريع يدعو إلى خفض الانبعاثات الكربونية. وبالمقارنة فقد كان المشرع مارك كيرك من ولاية إلينوي، وسبق له أن صوت لصالح تشريع ينص على تحديد سقف للانبعاثات الكربونية والاتجار بها، الاستثناء الوحيد بين المرشحين الجمهوريين في تأييده للتشريعات ذات الصلة بالتغير المناخي. وهناك مرشحون جمهوريون ومحافظون آخرون لا يتشككون في توفر أدلة علمية على وجود الظاهرة نفسها، لكنهم يعارضون في الوقت ذاته صدور أي تشريعات أو لوائح منظمة للانبعاثات الكربونية. إلى ذلك يتفق الكثير من المرشحين المحافظين مع وصف زميلهم ديفيد فيتر -المرشح عن ولاية لويزيانا- للأدلة العلمية المتوفرة بشأن وجود الاحتباس الحراري بأنها "مجرد قمامة علمية زائفة"! وتشير آخر استطلاعات الرأي العام التي أجريت حول ظاهرة الاحتباس الحراري إلى مدى عمق الانقسام الحزبي بشأنها، وإلى مدى قربها من بقية القضايا التي يشتد الخلاف الحزبي السياسي عليها ويزداد إسهامها في إعادة تشكيل المشهد الانتخابي لهذا العام. فمثلاً كشف استطلاع للرأي أجراه "مركز بيو للأبحاث" -وهو مؤسسة لا حزبية كما هو معلوم- أن عدد الأميركيين الذين يؤمنون بوجود أدلة علمية قوية على ظاهرة التغير المناخي، قد انخفض خلال السنوات الأربع السابقة من نسبة 79 إلى 59 في المئة. ففي عام 2006 كان يؤمن نصف الأميركيين بأن السبب الرئيسي وراء ارتفاع درجات حرارة الأرض هو النشاط البشري. أما اليوم فلا تحمل هذه القناعة نفسها سوى نسبة 34 في المئة منهم. وكشف استطلاع للرأي أجرته "شركة أبحاث الرأي" مؤخراً، عن أن نسبة 82 في المئة من الديمقراطيين يعتقدون بضرورة اتخاذ الولايات المتحدة موقعاً قيادياً دولياً في التصدي لخطر التغير المناخي، بينما لا تحمل القناعة نفسها سوى نسبة 39 في المئة فحسب من الجمهوريين. وهناك من يفسر هذا التراجع في نسب الأميركيين المؤيدين لأهمية التصدي لخطر التغير المناخي بأنه يعود جزئياً إلى الصعود السياسي الذي حققته حركة "حفلات الشاي" وما صاحبه من تزايد التشكيك في وجود الظاهرة من أساسها، أو توفر أدلة علمية على وجودها. وتسهم هذه الحركة في تعميق الأيديولوجية المعارضة أو حتى النافية للتغير المناخي. وهذا ما تؤكده نتائج الاستطلاع الذي أجراه "مركز بيو لأبحاث الرأي" حيث أشارت نسبة 70 في المئة ممن يصنفون أنفسهم بأنهم متعاطفون مع الحركة، إلى عدم قناعة هؤلاء بتوفر أدلة علمية قوية على ارتفاع درجات حرارة الأرض. كما توصل استطلاع آخر أجرته معاً كل من "نيويورك تايمز" و"سي بي إس"، إلى أن نسبة 14 في المئة فحسب من مؤيدي "حفلات الشاي" تؤمن بأن الاحتباس الحراري يمثل مشكلة بيئية لها تأثيرها على حياة البشرية اليوم وأنه يجب التصدي لها. وإلى ذلك أشارت نتائج استطلاع "مركز بيو" إلى نسبة لا تزيد على 27 في المئة من مؤيدي الحركة تؤازر الدعوة لدور أميركي قيادي عالمي في التصدي لخطر التغير المناخي. كما سجلت اللقاءات التي أجرتها "نيويورك تايمز" وجود رفض ديني قوي بين بعض مؤيدي الحركة لحقيقة وجود التغير المناخي. فمثلاً يرى نورمان دينسون -مؤسس الحركة في ولاية إنديانا- أن التغير المناخي ليس سوى فرية علمية مختلقة، قائلاً إنه "يقرأ ويؤمن بما جاء في الكتاب المقدس من أن الرب قد خلق الأرض لينعم بها البشر ويستفيدوا من خيراتها". وقال مؤيد آخر للحركة في الولاية نفسها إنه و"بصفته مسيحياً مؤمناً، لا يجد أمامه خياراً آخر سوى الإيمان بأن الرب قد وهب هذه البلاد الكثير من المعادن والموارد الطبيعية، وبأن هذه الهبات لم تخلق لتدمر الأرض ولا الإنسان كما يدعي البعض". ومهما يكن فهذه المواقف العقائدية الأصولية الثابتة من مسألة التغير المناخي في أوساط المحافظين، تعد من أهم السمات التي حددت خريطة المشهد الانتخابي الأميركي خلال الأيام القليلة الماضية. تم روتن محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"