في حوالي عام 1750 استطاع رجال أعمال ومبتكرون صناعيون إنجليز إطلاق محركات عملاقة تعمل بالبخار وطاقة الفحم الحجري. وكانت تلك بداية الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم. وتضافرت عدة عوامل بعدئذ، كبروز المصانع وبناء السكك الحديدية والقوارب الحاملة للمدافع وغيرها، لتدعم صعود الغرب باعتباره قوة اقتصادية عسكرية ضاربة في القرن التاسع عشر. أما في القرن العشرين، فقد ساعدت على استمرار الهيمنة الغربية على العالم عدة عوامل منها: اكتشاف وتطوير أجهزة الكمبيوتر، واختراع الأسلحة النووية. لكن هناك من يساوره قلق الآن على استمرار هذه الهيمنة في بدايات القرن الحادي والعشرين، خاصة وأن صعود قوتين اقتصاديتين كبريين جديدتين، الصين والهند، بات يهدد بنهاية الغرب كقوة عظمى دون منافس. ولفهم ما يجري في عالم اليوم، واحتمالات نهاية الهيمنة الغربية على العالم، يأخذنا إيان موريس، مؤلف الكتاب الذي نعرضه هنا، "لماذا يحكم الغرب الآن... أنماط التاريخ وما تكشف عنه مستقبلاً"، في رحلة طويلة عبر الماضي. وأثناء وصفه لأنماط التاريخ البشري، يقدم المؤلف -وهو أستاذ للتاريخ وعلم الآثار بجامعة ستانفورد- إجابات جديدة ومذهلة. فلم تكن تلك الهيمنة الغربية ناشئة عن تفوق عرقي ولا ثقافي، ولا هي تعزى إلى عبقرية بعض الغربيين الأفذاذ. بل يرد المؤلف تفوق الغرب على غيره من الأمم إلى تأثيرات العوامل الجغرافية على البشر العاديين وهم يتصدون لأزمات حياتهم ومعيشتهم اليومية، وأثناء مواجهتهم للأمراض والأوبئة الفتاكة، وتكيفهم مع تقلبات المناخ وكوارث الهجرات والغزوات الخارجية. ونتيجة لاستمرار التفاعل بين عوامل الجغرافيا وقدرة البشر على التكيف وابتكار أنماط حياة جديدة، لا مناص من أن تستمر تغيرات العالم على نحو مذهل. ولكي يصل الكاتب إلى إجابات عن الأسئلة والفرضيات التي أثارها، تطلب منه ذلك سبر أغوار التاريخ والغوص فيها على مسافة خمسين ألف عام على الأقل، ليستنبط إجابات منطقية مقنعة، على نحو ما يفعل علماء الآثار باعتمادهم على الحفريات وتقديمهم الأدلة والبراهين على الحقائق التي يتوصلون إليها. فمن رأيه أن الغرب دائماً قوة بحرية ضاربة لا تضاهى، بل كان الأسطول البحري الذي قاده كولومبوس في القرن الخامس عشر، متخلفاً عن نظيره الصيني. ففي عام 1492 أبحر كولومبوس بثلاث سفن تقل 90 بحاراً، بينما أبحر القبطان الصيني "زينج" صوب سريلانكا قبل كولومبوس بحوالي 87 عاماً، وبصحبته 300 سفينة و27 ألف بحار، ضمنهم 180 طبيباً وصيدلانياً! بل كانت لزينج بوصلات مغناطيسية متقدمة جداً، وكان على دراية تامة بالمحيط الهندي إلى درجة أنه استطاع رسم خريطة للمحيط الهندي بطول 12 قدماً. أما كولومبوس فلم يكن يدري أين هو بالضبط، ناهيك عن معرفته باتجاهه. وبالمقارنة كان البحارة الصينيون على علم كاف بسواحل الهند وشبه الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، وربما سواحل أستراليا أيضاً. لكن لمَ لم تهيمن الصين على العالم الجديد بدلاً من الغرب، وهي الأكثر تفوقاً منه بحرياً؟ مرة أخرى يقول الكاتب إن العامل الحاسم في تقرير هذه الهيمنة لم يكن التفوق العرقي، ولا حرية النظم السياسية التي كانت تحكم الغرب، ولا عظمة القادة وعبقريتهم الفذة... بل كان وفرة النباتات القابلة للاستزراع والحيوانات التي يمكن توليفها وتربيتها منزلياً في أوروبا أكثر من غيرها. ونتيجة لوفرة هذه الموارد، تحوّل كثير من الرعاة إلى فلاحين مستقرين، وبدأت المدن تنشأ شيئاً فشيئاً، فنهضت المجتمعات الحضرية، واتسعت رقعة الأراضي المزروعة، لتنطلق عجلة الحضارة الإنسانية. وهكذا تكون الجغرافيا قد "دونت مصائر الأمم والشعوب، ورسمت خرائطها ملامح الأدوار العالمية أكثر من أي عامل آخر". وتجدر الإشارة إلى أن دراسة إيان موريس هذه لا تنكفئ على الماضي وحده، فتكتفي بالإجابة عن أسئلته، وإنما هي دراسة منفتحة على الأسئلة التي يثيرها حاضر اليوم، والذي يشهد صعود قوى دولية جديدة مثل الصين والهند في الشرق، وأخرى في النصف الغربي من الكرة الأرضية مثل البرازيل. فهل صحيح أن هيمنة الغرب التقليدية آيلة للزوال مع صعود هذه القوى الجديدة؟ إجابة المؤلف عن هذا السؤال لا تنتج إلا عن مقارنة طويلة معقدة بين نظريتين في التاريخ، تفترض إحداهما تفوق الغرب الأزلي، والأخرى تفترض طابعاً مؤقتاً للهيمنة الغربية وتقول إن مصيرها آيل إلى زوال. وما بين هاتين النظريتين يستنبط المؤلف ما يؤكد استمرار الهيمنة الغربية إلى حين يصعب تحديد مداه بلغة الحساب والأرقام. عبدالجبار عبدالله الكتاب: لماذا يسود الغرب الآن المؤلف: إيان موريس الناشر: دار "فارار، شتراوس، آند جيروكس" تاريخ النشر: 2010