عجيبة نغمة التفريق بين العرب والفرس والأتراك، إنها شعوبية أرهقتنا عبر التاريخ وألحقت بهذه الأمم انتكاسات مريرة بعد أن شهدت أهم شراكة حضارية عرفها العالم القديم وما زالت آثارها حية في ضمير وحضور البشرية. وكان لابد لهذه الأمم بعد كل انتكاسة أن تعاود اللقاء وأن تستعيد لحظات الصفاء لتجعل من إيجابيات لقائها قوة دافعة، ولكن الآخر الذي يكن الكراهية ويعيش الخوف من أي جارين يتفقان يريد أن يلغي حقائق التاريخ والجغرافيا أيضاً. واليوم بعد أن أخذت إيران موقعاً مهماً في المنطقة ومدت يداً إلى العرب منذ أن طردت "الموساد" وأحلت مكانهم منظمة التحرير الفلسطينية، واستعادت الإسلام هوية حضارية لها، وهو يفرض على كل المسلمين أن يساهموا في تحرير الأرض المقدسة، وأن يمنعوا الظالم من الظلم أيّاً كان وعلى أي وقع، فكيف وهم يرون الظلم الفادح يقع على أشقائهم العرب، ويهدد المنطقة كلها، وقد استفز موقف إيران بعد ثورتها كل الطامعين بحكم المنطقة، وتمكنوا من إقناع العرب بخوض حرب ضد إيران، ولم تحقق هذه الحرب سوى دمار على الجانبين. واليوم يستعيد المحرضون نغمة التحريض، ويريدون تعبئة العرب ضد إيران عبر فتنة المذاهب والطوائف، وآخرون يتربصون بتركيا، ويخشون أن تنهض فيها هوية الحضارة العريقة، ويجعلون من الوهم العثماني فزاعة جديدة للعرب، وهم يدركون أن التاريخ لا يرجع إلى الخلف، وأن تركيا التي اختارت موقعها الكريم في منطقتها الحضارية لا تبحث عن أمجاد الماضي وإنما تريد بناء المستقبل مع أشقائها وشركائها الحضاريين. ولكن التاريخ يمدنا جميعاً بالتجارب والدروس والعبر، ومنه نستمد فهماً أعمق للواقع وعلى ضوء تجربته نفهم المستقبل، ومن حقنا أن نقول إن الأمم التي سكنت هذه المنطقة من العالم منذ آلاف القرون، وأقامت عليها حضارتها المستمرة هي الأجدر بأن تقرر مستقبلها وحدها، وأن تحكم نفسها بنفسها، وألا تسمح للغرباء بأن يحتلوا شبراً واحداً منها، أو أن يرسموا لها سلوكها ونمط عيشها، أو أن يسرقوا ثرواتها ويتحكموا في أمرها. ولقد عاشت في هذه المنطقة المسماة اليوم "الشرق الأوسط" أمم أصيلة مؤسسة أهمها العرب والأتراك والفرس، ومعهم شعوب عديدة أخرى كانت جزءاً أساسيّاً من نسيج المنطقة قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فوحدها جميعاً وضم إليها شعوباً عديدة من البلقان وأواسط آسيا ومناطق ضخمة من إفريقيا مع امتداد إلى الأندلس، في إطار حضاري مشترك قام على التعددية والتنوع وقبول الآخر، وحفظ الإسلام مكانة الأديان السماوية الأخرى منطلقاً من كونه متابعة لفضائلها. وفي إطار من التفاهم والاحترام تحقق العيش المشترك بين المسلمين وسواهم من مختلف الأعراق والملل والنحل على رغم كل الطفرات العابرة التي مرت بفعل الفتن ولم يتمكن دعاة الفتنة من الشعوبيين من أن يطمسوا حقائق التاريخ والحضارة ولاسيما حين كانت المنطقة تواجه الأخطار الخارجية، فلم يكن النسب العرقي أو الانتماء المذهبي موضع خلاف حين تشتد الأزمات، فعماد الدين زنكي ونور الدين الملقب بالشهيد كانا تركيين ووقفا في وجه الحملات الصليبية، ومهدا الطريق للنصر الذي حققه صلاح الدين الأيوبي (الكردي) في حطين (1187م) وهو الذي مهد الطريق للنصر الذي حققه المظفر قطز (الخوارزمي) وبيبرس (التركي الطاجكستاني) في عين جالوت 1260م، ثم كان الفتح العظيم للقسطنطينية بقيادة (محمد الفاتح التركي العثماني 1453م). وبعد أن انفرط العقد الإسلامي في العصور المتأخرة، تباعدت هذه الأمم وتعرضت بانفرادها للضعف، ولحروب واحتلال أجنبي مباشر أو غير مباشر، وحين كانت إيران تحت حكم الشاه كانت علاقاتها مع إسرائيل أمتن بكثير من علاقاتها مع العرب، وكذلك كانت تركيا، ولكن التحولات التي شهدتها المنطقة غيرت ملامح العلاقات، وهذا ما جعل إسرائيل وحلفاءها يخشون من أن تستعيد المنطقة قدرتها على قيادة نفسها، وأن تتحرر إرادتها، وأن تسترجع مشروعها التاريخي الذي يتصادم مع المشروع الصهيوني. وقد حرصت إيران على أمنها وأدركت ما يخبئ المشروع الصهيوني لها، لمعاقبتها لكونها تناصر المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وقد جر عليها إصرارها على هذه المناصرة عداء ضخماً وسط تهويل لإقناع العرب بأن إيران هي العدو وليس إسرائيل. وفي مطلع التسعينيات برز موقف مهم في تركيا التي وجدت العالم العربي والإسلامي يفرد لها مكاناً في المقدمة بينما يتردد الأوروبيون في قبولها بينهم، وكان طبيعيّاً أن تسارع سوريا لاحتضان التوجهات التركية التي تصب في صالح الأمة العربية كلها، ولتحويل نقاط التنابذ والتباعد إلى نقاط تآلف وتجاذب، وأقبل البلدان سوريا وتركيا على عقد جديد من العلاقات التي يحقق فيها الجاران القريبان مصالحهما المشتركة التي ترتبط بها إيران ودول البلقان وما حولها. ولم تكن سوريا تريد لهذه العلاقات أن تكون محدودة بمصالحها وحدها، فهي مفتوحة لكل الراغبين بالإفادة من التعاون الإقليمي والدولي. ويبدو عجيباً أن يطلب عربي من سوريا أن تقف ضد إيران كي ترضى عنها إسرائيل وأنصارها في المنطقة، بل أن يرى أحد الصحفيين المعلقين أن ذلك هو بوابة العودة إلى التضامن العربي الذي بت أخشى أن يصير عنوانه قريباً "التضامن العربي الإسرائيلي ضد إيران". وإذا كانت بعض الدول الشقيقة تلوم إيران أو سواها وتتهمها بملء بعض الفراغات في الساحة العربية وتعيب عليها أنها تحقق مصالحها بذلك، فإن على العرب أن يبادروا إلى ملء الفراغ بدل أن يلوموا من ملأه. وكذلك شأن الموقف العربي من القضية الفلسطينية، فحين يعود العرب إلى اعتبارها قضيتهم المركزية وينصب جهدهم على التحرير بدل أن ينصب على الإذعان والتمرير ستقف الأمم المساندة إلى جوارهم، ولن تأخذ دورهم. وقد أعلنت سوريا أمام كل أصدقائها الأقربين أن (عروبة العراق خط أحمر، وأن المقاومة خط أحمر، وأنها مع حق الإمارات العربية المتحدة الشقيقة في استعادة جزرها المحتلة) وعلاقات سوريا مع كل أصدقائها تنبع من مصالحها ومصالح أمتها العربية حصراً. وهي بالطبع لا ترى مصالح أمتنا في احتضان إسرائيل والخضوع المطلق للمشروع الصهيوني الأميركي، وهي لا ترسم سياساتها في الخفاء، وحسبنا ما يتحقق من تنسيق وتفاهم واعٍ عميق مع المملكة العربية السعودية ومع دول الخليج العربي كافة، ومع الدول العربية في الشمال الإفريقي، فإن غاب أحد عن هذا الفهم الجاد لمصالح الأمة فهو يغيّب نفسه ويعطي دوره لسواه.