يؤتى العالم العربي من أطرافه، في سير سريع ومخيف نحو سقوط روايته الكبرى التي دارت حول "القومية"، أو "الأمة الواحدة"، التي تتأسس على وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا وديانة الأغلبية الكاسحة بالإسلام. فالصومال انقسم إلى دولتين، إحداهما لم تنل اعترافاً سوى من الجارة إثيوبيا، والأخرى ممزقة ضعيفة ومرشحة لمزيد من التراجع. وبات مهدداً بتدخل خارجي سافر بعد اشتداد خطر "المحاكم الإسلامية". والعراق إن لم يحدث توافق سياسي بين ما به من طوائف وأعراق، فسينقسم إلى ثلاث دول، أو يعيش في دولة واحدة تنتظر الانقسام أو تتجدد ثقافة التفتت والانشطار بين العراقيين، فينسون مع الزمن، أنهم كانوا بلداً واحداً. ولبنان، إن لم تستقر أحواله مرشح هو الآخر للانقسام أو قيام حرب أهلية، أو على الأقل ينحدر إلى ضغائن سياسية واجتماعية تمنعه من التقدم، وتجعل كل همه لملمة جراحه الداخلية، والرضا بالعيش كسيحاً. والسودان مرشح هو الآخر للتفتت تباعاً. والمغرب يقاوم، بإصرار وعزيمة، في "الصحراء الغربية"، لكنه لم يتمكن، إلى الآن، من إنهاء النزاع، لاستقواء البوليساريو بالخارج. وإذا قلنا إن مشكلة الأمازيغ في الجزائر يتم حلها تدريجيّاً، مع التطور السياسي الديمقراطي للبلاد، وأوضاع الشيعة في البحرين قابلة للتسوية مع النزعة السياسية الجديدة للنظام الحاكم، التي تطرح حلاً سياسيّاً، وليس أمنيّاً، لهذه المشكلة، تصبح الكتلة العربية السليمة نسبيّاً، هي مصر ودول مجلس التعاون الخليجي ودول المغرب العربي. وحتى يواجه العرب مخطط تذويبهم في كيان أوسع، وإنهاء التواجد السياسي لنظامهم الإقليمي حتى ولو في وضع ضعيف، يجب أن تحافظ هذه الكتلة البشرية وذلك الامتداد الجغرافي على تماسكه، خاصة مع استمرار العوامل التقليدية المعروفة لهذا التماسك، من لغة وتاريخ وأغلبية كاسحة تدين بالإسلام فضلاً عن التلاصق المكاني، الذي لا يقطعه سوى نتوء أرضي غريب يسمى إسرائيل. فإذا بقيت تلك البقعة وفية لـ"الوطن العربي" أو حتى "العالم العربي"، كما يحلو للواقعيين أن يصفوه، فبإمكانها أن تستعيد الكتلة الجغرافية التي يؤتى عليها الآن، والمتمثلة في الأطراف، التي تم تحديدها سلفاً. لكن بلوغ هذه الأمنية لا يكون بالكلام، ولا باستمراء أحلام اليقظة، التي طالما خدرت الذهن العربي ونومته عقوداً طويلة، حتى انتهى به الحال إلى أن يصبح وجبة طرية، يريد كل منهم أن يخطف منه أكبر جزء ويلتهمه، طالباً المزيد. ومن نافلة القول إن الأماني تتحقق حين نعمل، من دون ملل ولا كلل، في سبيلها، فهذه مسلمة لا أتصور أن هناك خلافاً عليها، لكن الخلاف هو في أسلوب العمل وطرائقه، وهذه مسؤولية النخب السياسية والاقتصادية والثقافية التي تموج بها الكتلة العربية الحية، من مضيق هرمز إلى مضيق جبل طارق. وإذا قلنا إن فكرة "الوحدة العربية" تبدو مثالية في ظل المعطيات الراهنة، فقد يتبادر إلى الذهن تصوران عمليان، قابلان للأخذ والرد، والحذف والإضافة، وإعادة الصياغة والبناء، حتى تستقيم في أذهان كل من يريد للعالم العربي خيراً، حتى ولو قليل ينقذه من الضياع والذوبان في كيانات تم تجهيزها خارج بوابات العرب ومن وراء ظهورهم، وبعيداً عن أعينهم. وأول هذه التصورات هو عدم التفريط في الكيانات الإقليمية العربية الجزئية، متمثلة في "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" والاتحاد المغاربي بل النظر إليها على أنها من الضروري أن تكون مقدمة لتنسيق بين الكتلتين العربيتين في المغرب والمشرق، تلعب فيه مصر، بوصفها واسطة العقد بين العرب جغرافيّاً وقلبهم السياسي، دوراً مهمّاً إن أراد حاكموها هذا وعملوا من أجله. ويسهل من هذا الأمر أن مصر عضو مراقب في اتحاد المغرب العربي، وتربطها علاقات طيبة مع دول الخليج العربية، وهي علاقات علمنا التاريخ القريب أنها تزداد متانة وقوة في ساعات الخطر. وفي الوقت نفسه فإن العلاقات الخليجية- المغاربية، تخلو دوماً من عوامل التكدير ولم تفقد أبداً درجة الود التي تمسكت بها طيلة السنوات التي أعقبت استقلال البلاد العربية عن الاستعمار الأجنبي. وثاني هذه التصورات هو تشجيع قيام كتلة عربية ثالثة يكون مكانها هذه المرة بلاد الشام، تضم سوريا ولبنان والأردن، وتنتظر أن ينضم إليها العراق حين يصبح بإمكان حكومة عراقية وطنية أن تتخذ قراراً من هذا القبيل. كما يمكن لمصر أن تنضم إلى هذه الكتلة، في حالة تشبه، مع اختلاف الهدف والسياق السياسي، انضمامها إلى ما كان يسمى "مجلس التعاون العربي" الذي ضم مصر والعراق واليمن والأردن، ولم يبق على قيد الحياة إلا فترة وجيزة. لكن هذين التصورين يواجهان صعوبات في الواقع، فبين دول الاتحاد المغاربي من أسباب الخلاف ما أدى إلى تجميد نشاطه، طيلة السنوات الماضية. كما أن احتمالات انتظام سوريا والأردن ومعهما العراق في كتلة إقليمية مصغرة، يبدو صعباً، في ظل ما بين البلدان الثلاثة من خلافات ورواسب، علاوة على أن قراراً من هذا القبيل ليس بوسع الحكومة العراقية الراهنة أن تتخذه، كما أن الأردن قد لا يكون مطلق اليد في قطع خطوة كهذه. على العكس من ذلك تماماً، فإن مجلس التعاون الخليجي الذي اقترب عمره من ثلث قرن، يعزز تواجده الاقتصادي والأمني، ويرمم ما ينقصه من تنسيق سياسي، أو ما يطرأ على مسيرته اليومية من خلافات تتم تسويتها تباعاً. كما أن مصر، مستعصية على الانقسام، على خلفية طائفية أو جهوية. ولأجل هذا فإن مزيداً من التعاون بين مصر ودول الخليج، في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة، سيعزز التيار العربي العام المقاوم لمشروع "الشرق أوسطية"، والمتصدي للخطر الإسرائيلي. والكتلة العربية المتماسكة، متمثلة في مصر والخليج، لابد من أن تحافظ على نفسها حية، فقد تستطيع، حال تمكين شعوب دولها من ناصية القرار، أن تعيد "الوطن العربي" إلى سابق وهجه وطموحه، وتنهي تماماً أحلام الراغبين في أن يلقوا العرب في غياهب التاريخ.