مع سياسة اليمين الإسرائيلي المتمثل في الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو القائمة على قضم مزيد من الأراضي الفلسطينية، وتسمين "المستوطنات" (المستعمرات)، وبناء جدار الفصل العنصري، وسياسة "الترانسفير" في ظل القوانين الفاشية الحالية، وفقدان استراتيجية التفاوض الفلسطينية الحالية مصداقيتها، وفشل منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها في استثمار العمل المقاوم بشكل صحيح، واستمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي... يحزن المرء من الوصول إلى نتيجة مفادها أننا بتنا أعجز من القيام بحركة تحرير تعتمد خيار الكفاح المسلح طريقاً أو حتى القيام بانتفاضة شبيهة بانتفاضة الأقصى. وبالمقابل، لا تشعر إسرائيل بأنها في حاجة إلى "السلام". فهي ترى أنها حلت هاجسها الأمني عبر الجدار في الضفة الغربية، والحصار على قطاع غزة، والتنسيق الأمني، والعلاقة التفاوضية مع السلطة الفلسطينية، خاصة وأنه أمر يحميها من الضغوط والعزلة الخارجية. وبدل أن تكون "المستوطنات" هي العثرة، بات الحديث عن "توسيعها" هو العثرة أمام المفاوضات! ومع استمرار شلل المجتمع الدولي وتوهان العالم العربي، تعارض السلطة الفلسطينية أي شكل من أشكال "العنف"، باعتبار أنه أمر لا يمكن البناء عليه للوصول إلى أي شيء، وأن التمسك باتفاقات أوسلو هو السبيل... فيما أحكمت الحكومة المقالة بالقطاع قبضتها ومنعت إطلاق صواريخ على إسرائيل تثبيتاً لهدنة "الأمر الواقع" هناك، وخشيتها مما يجدد العدوان الوحشي على القطاع كما حدث في نهاية عام 2008. ما سبق، يؤكد مجدداً أن الفلسطينيين لوحدهم لا حول لهم ولا قوة، وأن دول العالم، بما فيها العربية، لن تفرض على إسرائيل "تسوية معقولة" (!)، وأن الدولة الصهيونية مازالت بعيدة جدا عن الفهم الحقيقي "للسلام"، بل هي تظنه يتحقق تحت جنازير الدبابات وبقوة صواريخ الطائرات أو بإمكانية تحويل الأمر الواقع إلى مشروعية مقبولة باستمرار مصادرة الأراضي وزرع "المستوطنات‏"، علماً بأنها، وفوق ذلك كله، مازالت غير مستعدة للتخلي عن أطماعها ومقاصدها التوسعية على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة‏. وفي ظل ظروف ومعطيات كهذه، يبقى الطريق الممكن، وربما الأوحد حالياً، هو ما بات يسمى "الانتفاضة المعولمة"، أي ما يعني باختصار: الاعتماد على أشكال متعددة من النضال الجماهيري ضد الاحتلال، والعمل في كافة المحافل الدولية بغية محاصرة إسرائيل ومحاكمتها لارتكابها جرائم الحرب الدولية، والاستفادة من التضامن الدولي والعربي... النهج الذي لخصه الدكتور جورج جقمان، المدير العام لمؤسسة "مواطن" (المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية) في مؤتمرها السنوي السادس عشر الذي شاركت فيه العديد من الشخصيات والقيادات السياسية والاجتماعية، حين قال: "إذا نظرنا إلى الانتفاضة الأولى فقد كانت مدنية، والثانية كانت مسلحة، ونحن الآن في بداية انتفاضة ثالثة هي انتفاضة معولمة، وإن عناصر هذه الانتفاضة تتمثل في موضوع السفن التركية، وموضوع تقرير جولدستون، والمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، إضافة إلى موضوع مناهضة الجدار". وأضاف الدكتور جقمان: "إنها انتفاضة معولمة لأن عنصر التضامن الدولي موجود فيها، إضافة إلى حروب الإنترنت، وهي مرحلة جديدة من النضال مشابهة لما حصل من مسعى لعزل جنوب إفريقيا". ومثل هذا الأمر، يتطلب أولاً ضرورة تغليب حركتي "فتح" و"حماس" للمصلحة الوطنية على كافة المصالح الحزبية، والعمل على توحيد الجهود نحو الوحدة الوطنية، والعمل على إيجاد برنامج وطني جامع ينير ويرشد النضال الفلسطيني بكافة أشكاله ومراحله وتطوراته وفقاً للوضع الذي تمر به القضية الفلسطينية على كافة الأصعدة، دولياً وعربياً. أهمية هذا النوع من الانتفاضة تنبع من كونها تجمع بين المقاومة الشعبية التي يدعو الجميع إليها، والتي يجب أن تحظى بإجماع كافة الأطراف الرسمية والأهلية الفلسطينية، ومن ثم ربطها -في بعديها الإقليمي والدولي- ومن خلال التظاهرات الأسبوعية التي يشارك فيها أجانب بالقرب من الجدار العنصري، وإثارة قضايا حقوقية ضد إسرائيل في المحافل الدولية (كتقرير جولدستون)، والتحقيقات المستمرة بشأن الاعتداء على "أسطول الحرية"، ودعوات المقاطعة المتعددة الجوانب لإسرائيل في مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن الدعوات إلى سحب الاستثمارات الأجنبية من إسرائيل. عندها يمكن أن ننجح في نزع الشرعية عن إسرائيل فتسقط استثنائيتها باعتبارها "دولة فوق القانون"! إن النجاح في مقاطعة إسرائيل وتعريتها وفرض عقوبات عليها نقطة بالغة الأهمية في إطار الظروف العالمية المحيطة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي اليوم. فإسرائيل التي طالما أطمأنت إلى أنها ستستمر في تلقي الدعم من حلفائها بغض النظر عن تعاملها مع الفلسطينيين، يتابع العالم اليوم تماديها في تهويد القدس وإصدار القوانين العنصرية ضد فلسطينيي 48، وإصرارها على "الاستيطان" رغم رفضه من قبل العالم أجمع. ويكفي أن كاتبة يهودية مثل "ناعومي كلين" دعت إلى تشكيل حركة عالمية لمقاطعة إسرائيل، معتبرة أن "أفضل استراتيجية لإنهاء الاحتلال الدموي المتزايد، هو أن تصبح إسرائيل هدفاً لحركة عالمية كالتي أنهت سياسة التمييز العنصر (الآبارتايد) في جنوب إفريقيا". أما بالنسبة لمحاكمة مجرمي الحرب، فإن الاهتمام بهذه المحاكمات شهد تزايداً ملحوظاً بعد رفع قضايا ضد قادة إسرائيليين، حيث لها مفعول إيجابي على الرأي العام العالمي وتوعيته، وربما ازدياد ضغوطه على المسؤولين عن ارتكاب مثل تلك الجرائم ومن يدعمهم، مع التحذير من تحولها إلى أداة يتم توظيفها لامتصاص غضب الرأي العام العالمي عندما يتابع الأحداث المأساوية التي تصنعها جرائم الحرب الإسرائيلية. ما يميز هذه "الانتفاضة" أنها غير محصورة في فلسطين وحدها، بل تدور في مختلف أنحاء العالم، ولا تحتاج لقيادة مركزية. لذا، فالمطلوب من منظمة التحرير الفلسطينية وقوى المجتمع المدني الفلسطيني وكافة الحلفاء، هو استنهاض لجان التضامن الدولية لتفعيل مثل هذه الانتفاضة، مع السعي لتأطيرها ومأسستها لتكسب موقفاً داعماً من الشارع العربي والمسلم والأوروبي، على أمل النجاح باستعادة البعد العربي لقضية فلسطين، وتفعيل حركة التضامن الدولي، خاصة وأن إسرائيل هي من حذرت من هذا النوع من الانتفاضات، بل وبدأت تدرس سن تشريعات تجرم كل من يعلن مقاطعة إسرائيل وتجعل منه "معادياً للسامية" وغير ذلك من نعوت أكل عليها الدهر وشرب!