فيما كان قادة الصهيونية العالمية يناقشون الأفكار الأساسية لإقامة وطن لليهود في فلسطين واجهتهم عقبتان أساسيتان، تمثلت الأولى في الطريقة التي سيقنعون بها اليهود المتشككين في أوروبا وباقي أنحاء العالم بتأييد الصهيونية ونظريتها القائمة على تجذر معاداة السامية وتأصلها في عالم "الأغيار" وضرورة قيام دولة يهودية لضمان الحماية والحريات لليهود، وهذه الفكرة حملت أيضاً في طياتها إشكالية مستعصية بسبب نجاح اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها، وبخاصة في أوروبا الغربية واندماجهم التام في نسيجها، بل إن معظم اليهود خشوا حينها من أن تهدد الصهيونية حقوقهم المكتسبة حديثاً في البلدان التي ولدوا فيها. أما العقبة الثانية التي اعترضت طريق الصهيونية فكانت مسألة تحويل فلسطين بأغلبيتها المسلمة والمسيحية إلى بلد لا يكتفي فيه اليهود بالأغلبية بل يريدونه بلداً يهوديّاً تماماً مثلما هي إنجلترا إنجليزية، فجاءت الأحداث العالمية الكبرى التي أعقبت هذه النقاشات الصهيونية لتذلل تلك العقبات، لاسيما بعد الحرب العالمية الأولى وصعود مشاعر العداء للسامية في أوروبا الفاشية وانشغال ألمانيا النازية بما سمي "الحل النهائي" للمسألة اليهودية. وهذه العوامل تضافرت جميعاً لتضفي على أهداف الصهيونية المتمثلة في حماية اليهود من الأخطار والتهديدات شرعية أكبر وراهنية أوسع. ولكن بقيت مع ذلك إشكالية الدولة اليهودية التي تعاملت معها القيادة الصهيونية من منطلقين، إذ فيما اعتبر البعض أن إقامة دولة يهودية في فلسطين لن يتأتى دون الإضرار بمصالح العرب في فلسطين الذين يشكلون الأغلبية، مضيفين أن ما سيترتب على ذلك من انتهاكات جسيمة لحقوق الفلسطينيين يتعارض مع المبادئ الإنسانية لليهودية والطابع الديمقراطي للدولة الوليدة، رأى بعض آخر من قادة الصهيونية أنه في ظل الأخطار المحدقة ليس فقط بالهوية اليهودية بل بالوجود اليهودي في العالم بسبب العداء للسامية المتفشي على نطاق واسع، تشكل مسألة انتهاك حقوق الفلسطينيين والتنكيل بهم أخف الضررين، وهو الرأي الذي سيطر في النهاية على الفكر الصهيوني وفرض نفسه كأسلوب في تبرير الاحتلال وما زالت تعتمده إسرائيل حتى اليوم. فقد قبل الصهاينة المؤسسون هذه الفكرة واعتبروا أنه لا مناص من الاصطدام وجوديّاً مع المجتمع الفلسطيني وسحقه تماماً لتحويل فلسطين من بلد تسكنه أغلبية عربية إلى بلد يهودي كما هي إنجلترا إنجليزية. وقد استغلت القيادة الصهيونية المعارضة المشروعة للسكان العرب ووقوفهم ضد تحويل بلدهم إلى دولة يهودية، برفض قرار التقسيم، لشن حرب على الفلسطينيين ترمي إلى تهجيرهم من أراضيهم وإخضاعهم للتطهير العرقي بين 1947 و1949. ولكن على رغم النجاحات التي حققتها العصابات الصهيونية على الصعيد العسكري بالسيطرة ليس فقط على الجزء الذي خصصته الأمم المتحدة لقيام الدولة اليهودية، بل أيضاً بالزحف على أكثر من نصف الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية، إلا أن إقامة إسرائيل على 78 في المئة من أرض فلسطين لم تنجح من الناحية السياسية والأيديولوجية في تحقيق الهدف الذي كانت تصبو إليه الصهيونية متمثلاً في إقامة دولة لليهود فقط. فقد ظلت أقلية عربية مهمة في أراضيها تحت السيطرة الإسرائيلية مهددة بذلك وعد الدولة اليهودية "الديمقراطية"، وعلى رغم التطهير العرقي وعمليات التهجير والطرد، بالإضافة إلى المجازر الكثيرة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين، رفض المجتمع الفلسطيني الخضوع واستمرت الهوية الفلسطينية في بناء مؤسساتها الخاصة الرافضة لمظاهر عدم المساواة والهيمنة، وفي هذا ما يفسر التناقض اللافت في موقف نتنياهو، الذي لا يكف عن إعلان نيته في إحلال السلام مع الفلسطينيين فيما هو في الحقيقة يريد منهم الاستسلام، فقد صرح مؤخراً في القدس أمام قادة يهود العالم بأنه لكي ينجح السلام لابد أن يقوم على اتفاقية بين الطرفين، وأنه فقط عندما يقبل الفلسطينيون مطلبه بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية سيكونون مستعدين لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولكن بما أن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية له تداعيات على حقوق الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم بين 1947 و1949 لاسيما حق العودة، وبما أن لذلك نتائج أيضاً على حقوق المساواة بالنسبة للأقلية العربية في إسرائيل، يبدو أن نتنياهو ما زال يخوض حرب العصابات الصهيونية، وما فشلت إسرائيل في تحقيقه من خلال الحرب يسعى نتنياهو بمكر لتحقيقه عبر مفاوضات "السلام" وهو الوصول إلى مجتمع يهودي متجانس قائم على "الديمقراطية" فيما تُحرم الأقلية غير اليهودية من أبسط حقوقها! أما بالنسبة للفلسطينيين فإن الاعتراف بإسرائيل دولة لليهود وليست مجرد دولة لمواطنيها بل دولة ليهود العالم جميعاً أينما كانوا، فهذا يعني في النهاية القبول بالممارسات التمييزية لإسرائيل التي تضمن الحقوق السياسية ليهود العالم بأسره فيما تنكر على الفلسطينيين المولودين على أرض فلسطين تلك الحقوق. ولذا فإن إصرار نتنياهو على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية يتعدى المطالبة باستسلام تام للفلسطينيين الذي فشلت إسرائيل في تحقيقه عبر حروبها المتتالية، بل هو محاولة للتخلص نهائيّاً من مسألة اللاجئين. وأخيراً سيمثل اعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل إضفاء للشرعية على الطرد والتطهير العرقي الذي مارسته الصهيونية، فضلًا عن تبرير أساطيرها المؤسسة للدولة فيما تُشطب رواية الفلسطينيين حول النكبة. أما فرض قسم الولاء لإسرائيل كـ"دولة يهودية ديمقراطية" على غير اليهود فهو مثال آخر على سعي إسرائيل للالتفاف على عنصريتها باللجوء إلى العمل التشريعي.