تميل إدارة أوباما إلى تفضيل حكومة وطنية جامعة في العراق برئاسة المالكي وليس علاََّوي، رغم إعلانها المتكرر أنها تلتزم عدم دعم أي طرف ضد آخر. وليس هناك تناقض في هذا الموقف، لأن تفضيل مرشح معين لا يعني بالضرورة التحرك لمساندته ضد غيره. لكن هذا الموقف يتوافق، بغض النظر عن تكييفه، مع السياسة الإيرانية التي تساند المالكي وتمارس ضغوطاً لدعم مركزه في السباق إلى رئاسة الحكومة المتعثرة محاولات تشكيلها منذ مارس الماضي. لذلك يثير هذا التوافق سؤالاً مشروعاً عن مغزاه، وهل هو نتيجة تنازل تضطر إليه واشنطن بسبب تراجع قدرتها على تشكيل مستقبل العراق عموماً وليس حكومته القادمة فقط، أم أنه تعبير عن خيارها الذي يحقق مصالحها وينسجم مع خططها الراهنة. وهذا سؤال مثار بالأساس في دوائر عربية عدة، سياسية وإعلامية، لكنه ليس بعيداً عن اهتمام أوساط دولية أيضاً. وهو يقترن، حين يثار في كثير من الدوائر العربية المعنية به، بقلق من ازدياد نفوذ إيران في العراق. كما يرتبط بمخاوف من سيناريو صفقة أميركية إيرانية على المستوى الإقليمي في حال استبعاد خيار المواجهة بشأن برنامج طهران النووي. ويلد هذا السؤال سؤالاً آخر يعنينا هنا، وهو: هل هناك مبرر كاف لقلق عربي من توافق أميركي إيراني فيما يتعلق برئاسة الحكومة العراقية القادمة؟ والإجابة، هنا، قد تكون حمَّالة أوجه. وربما يكون أكثر هذه الأوجه رجحاناً هو أن القلق مبرر إذا كان التوافق بشأن المالكي نتيجة إقرار واشنطن ضمنياً بأن العراق صار منطقة نفوذ إيرانية. ويبدو أن هذا هو ما يفترضه بعض العرب. لكن الاضطرار الأميركي إلى قبول المالكي ليس الافتراض الوحيد. فثمة افتراض يقابله، وقد يفوقه قوة، وهو أن يكون المالكي خياراً أميركياً مثلما هو خيار لإيران مع اختلاف دوافع الطرفين وخلفياتهما وتوقعاتهما من الحكومة القادمة. فليس هناك أي دليل على أن واشنطن كانت تفضل علاَّوي رغم أن اتجاهه العلماني الليبرالي يجعله الأقرب إليها. ولا يوجد، بالتالي، ما يدفع إلى الافتراض بأنها اضطرت للتخلي عنه وقبول المالكي. ولا يمكن، إذن، النظر إلى ما سُرب بشأن اقتراحها إسناد رئاسة الحكومة إلى المالكي وتعيين علاَّوي رئيساً لمجلس الأمن الوطني مع توسيع صلاحياته كما لو أنه مؤشر على رغبتها في تعويض الأخير عن منصب كانت ترغب في أن يشغله. وفي المقابل، هناك ما يفيد بأن المالكي هو خيارها الذي لم تضطر إليه ضمن معادلة تضمن دوراً أساسياً لعلاَّوي، وفي إطار حكومة جامعة لضمان تهميش التيار الصدري الذي يقلقها ارتهان الحكومة القادمة له إذا اعتمدت على غالبية برلمانية محدودة في غياب "القائمة العراقية". وقد ظهر ما يدل على هذا القلق في مطالبة السفير الأميركي لدى العراق بعدم منح التيار الصدري مناصب أمنية. كما أن حرص واشنطن على عدم مساندة أي مرشح لرئاسة الحكومة بصورة علنية لم يخف، من البداية، أن استمرار المالكي في هذا المنصب هو الأكثر انسجاماً مع أولوياتها في العراق خلال الفترة القصيرة المقبلة. أما احتمال أن تكون قد اضطرت إلى هذا الخيار اضطراراً فلا يعضده إلا افتراضان أحدهما غير صحيح والثاني غير دقيق. فأما الافتراض الذي لا يبدو صحيحاً فهو أن واشنطن تعطي الأولوية لإعادة بناء العراق دولة وطنية وليست دينية تقوم على نظام ديمقراطي حديث، واستعادة دوره الإقليمي بصورة أكثر إيجابية. وهذا الافتراض هو الذي يجعل علاَّوي مرشحاً أفضل لرئاسة الحكومة بسبب ليبراليته وعلمانيته واستقلاليته وطموحه وحرصه على إبعاد العراق عن دائرة النفوذ الإيراني. غير أنه لا دليل على صحة هذا الافتراض. فالسياسة الأميركية الواقعية جداً لا تطمح اليوم إلى أكثر من ترميم الوضع العراقي قبل سحب ما بقي من قوات، لذلك تفضل تشكيل حكومة قادرة على اتخاذ قرارات لا تعرقلها طهران. أما الافتراض الذي لا يبدو دقيقاً فهو أن المالكي يعتبر وكيل إيران في العراق. وهذا افتراض يُبنى على تاريخ المالكي أكثر مما يُقام على الواقع الراهن. ففي التاريخ أن المالكي هو زعيم حزب "الدعوة" الذي احتضنته إيران واستضافت كوادره لفترة طويلة. غير أن هذا افتراض ليس دقيقاً لأن إيران لها وكلاء كُثر في العراق. وإذا كان المالكي واحداً منهم، فهو أكثرهم لباقة في التعاطي مع الأميركيين والسعي إلى حلول وسطية هي أكثر ما تريده واشنطن في الفترة المقبلة. ولهذا كله، يبدو المالكي خياراً أميركياً يتقاطع مع السياسة الإيرانية دون أن يتطابق معها، لأنه يقترن بصيغة تتيح إسناد دور بالغ الأهمية لمنافسة علاَّوي في المجال الذي تعني به واشنطن أكثر من غيره اليوم، وهو الأمن ومن ثم الاستقرار. ووفق هذه الصيغة، تتطلع إدارة أوباما إلى رئيس حكومة لا ينفق معظم جهده في حل مشاكل تخلقها له إيران في مرحلة حرجة، ورئيس لمجلس الأمن الوطني موثوق في اتجاهه وعلاقاته الإقليمية. ويبدو أن هذه هي الصيغة التي تتوقع واشنطن أن توفر أجواء ملائمة لخروجها من العراق في وجود رئيس حكومة سبق أن اختبرته وكانت تجربتها معه مرضية لها عند إبرام المعاهدة الأمنية التي تنظم هذا الخروج. كما أن كتلته البرلمانية متماسكة، بخلاف كتلة علاَّوي التي تضم عدداً كبيراً من التنظيمات بالإضافة إلى شخصيات قوية لكل منها اتجاهه وحساباته. هذا فضلاً عن أن استقلالية علاّوي تجعل التعاطي معه صعباً في بعض الأحيان على الأقل من وجهة نظر الأميركيين الأكثر واقعية الذين يرون أن هذه الاستقلالية قد تعمل ضد واشنطن أكثر من إيران التي تملك أدوات للتغلغل في المجتمع العراقي لا يستطيع هو أو غيره اجتثاثها في المدى القصير ولا تملك الولايات المتحدة شيئاً منها. لذلك تبدو مساواة علاَّوى بين واشنطن وطهران، من وجهة النظر الأميركية هذه، خادعة لأنهما ليستا متساويتين من حيث نوع حضورهما في العراق. فالأرجح، إذن، أن تفضيل واشنطن المالكي يرتبط بأولوياتها في العراق خلال العامين القادمين، وليس بمستقبل علاقاتها مع إيران. وما توافقها مع طهران في ذلك إلا نتيجة تقاطع سياستين مختلفتين عند نقطة التقاء عابرة. لذلك لا يصح ربطه بأي سيناريوات مفترضة لمستقبل المنطقة، وخصوصاً سيناريو الصفقة الأميركية الإيرانية الذي أصبح هاجساً في بعض الأوساط العربية.