عندما سُئل رئيس تحرير موقع "ويكيليكس" عن أكثر صورة علقت بذهنه من نحو 400 ألف وثيقة عسكرية قام بتسريبها، تحدث عن فتاة صغيرة في الشارع بثوب أصفر اعتادت على التقاط سكاكر يرميها مجندون أميركيون، "وذات يوم، ولسبب غير مفهوم أطّلت بندقية من دبابة أميركية مارة، ونسفت الفتاة". صورة مروّعة من نوع مختلف انطبعت في أبعد ذهن عن التأثر العاطفي؛ ذهن رئيس القضاء الأعلى السابق في بريطانيا اللورد "توم بنغهام". قال بنغهام الذي يعدّ من ألمع الأدمغة القانونية في العالم: "إذا كنتُ مصيباً بأن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى، لم يكن بتخويل من مجلس الأمن، فسيكون ذلك بالطبع انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي وحكم القانون". ذكر ذلك في كتابه "حكم القانون" الذي أشار فيه إلى أربعين عملاً عسكرياً انتهكت بها واشنطن "حكم القانون" خلال ربع القرن الأخير في العراق وأفغانستان ويوغسلافيا وأنغولا والسلفادور ونيكاراغوا ولبنان وليبيا واليمن والسودان. ولو لم يغادر بنغهام الحياة قبل ستة أسابيع، لوجد في وثائق "ويكيليكس" أسانيد مادية وفيرة على انتهاك الإدارتين السابقتين، الأميركية والبريطانية، لـ"حكم القانون الذي يستوجب امتثال الدولة لالتزاماتها تجاه القانون الدولي والوطني". ولانتهاك "حكم القانون" في العراق تاريخ طويل شاركت فيه واشنطن ولندن. "جوي غوردن"، أستاذة القانون الدولي في "جامعة فيرفيلد" بالولايات المتحدة، أعادت أخيراً فتح أحد ملفاته الكبيرة والمنسية، وذلك بكتابها "الحرب الخفية". يتناول الكتاب الحظر الشامل الذي فرض على بغداد بموجب قرار الأمم المتحدة عقب غزو الكويت عام 1990. كان قصف "القنابل الذكية" خلال الهجوم على العراق قد دمّر الجسور، ومراكز الاتصالات، ومحطات الطاقة الكهربائية، والمجاري، ومصافي النفط... وغيرها من مكونات الهياكل الارتكازية، وأعاد البلد كما توعد قادة واشنطن، إلى ما قبل العصر الصناعي. وتصف غوردن الجهود الشيطانية التي بذلها موظفون دبلوماسيون أميركيون وبريطانيون في الأمم المتحدة للحيلولة دون أن يعيد العراق بناء هياكله الارتكازية. وبين المواد التي شملها الحظر؛ الملح، والمضخات المائية، ودراجات الأطفال، ومواد صنع الحفاظات، ومعدات صناعة مسحوق الحليب، وأنسجة الملابس. وتوسّع الحظر لاحقاً ليشمل المفاتيح والمغارز الكهربائية، وأطر النوافذ، والآجر الفخاري، والأصباغ. وبرروا حظر استيراد مسحوق الحليب مثلاً بأنه لا يسد حاجات ضرورية، واستندوا على رأي خبراء سلاح في واشنطن لمنع استيراد أمصال الأطفال. وتحولت أنهار العراق الملوثة وردهات مستشفيات الأطفال الفارغة، إلى شواهد حية على عواقب منع استيراد الكلور الضروري للتعقيم بحجة استخدامه في صنع أسلحة كيماوية. وبسبب تلوث المياه وعدم توفر الأدوية وفقر التغذية قفزت في عام 1997 معدلات وفيات الأطفال إلى سبعة من ثمانية، وكانت تبلغ قبل عام 1990 واحداً من ثلاثين. وفي مرات نادرة كان يرفع الحجاب الكثيف المفروض على ما يجري في العراق عن طريق أرقام رسمية في تصريحات لأمين عام الأمم المتحدة آنذاك (عنان) حول معاناة ثلث الأطفال العراقيين من نقص التغذية، أو في زلة لسان مشهورة لوزيرة خارجية واشنطن (أولبرايت) حين أجابت: "أجل"، على سؤال مقدمة برنامج تلفزيوني عما إذا كان موت نصف مليون طفل عراقي ثمن يستحق دفعه للحصول على اعتراف العراق بإخفائه معلومات عن تسلحه. أما تفاصيل فضائح "برنامج النفط مقابل الغذاء"، والتي يذكرها الكتاب، فقد تكون معروفة، لكنّ استعادة المعلومات حول استقطاع مبالغ طائلة لدفع تعويضات الحرب، وتغطية نفقات مفتشين عن أسلحة غير موجودة... ترسم الصورة الكبيرة لعملية نهب أموال العراق، والمستمرة حتى الآن. فالمؤلفة تستذكر كيف شنت واشنطن حملة كبرى، رسمية وإعلامية، اتهمت "الأمم المتحدة" بالتغطية على "قضم" النظام السابق مبلغ ملياري دولار من أموال "برنامج النفط مقابل الغذاء". صادفت هذه الحملة التي أُطلقت عام 2004 اختفاء 18 مليار دولار من أموال النفط العراقي دون أثر. ليس بمقدور الحرب والاحتلال اللذين ينتهكان القانون وقف "حكم القانون". فللحرب والاحتلال قوانينهما واتفاقاتهما الدولية حتى قبل قيام الأمم المتحدة. وهذه أهمية وثائق "ويكيليكس" التي تقدم شهادات ميدانية على انتهاكات واشنطن ولندن "حكم القانون" مرتين؛ مرة بالقتل والتدمير ومرة بالتغطية عليهما. طوفان معلومات "ويكيليكس" جعلت أنطوني كوردسمان، أستاذ كرسي "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن، يشكو من عدم وجود طريقة سهلة لوضعها في سياق. ورغم اختياره مصطلح "الحرب غير المتوازية"، لتفسير أهوالها، فإنه يساوي بين طرفي الحرب في ما يعتبره "الرعب المتأصل فيها وما تسببه من ضحايا جسيمة، وانتهاكات من الجانبين"، ويعتبر "ويكيليكس الوجه الحقيقي للحرب الحديثة"، حسب عنوان بحثه الذي يقع في نحو تسعة آلاف كلمة. انتهاكات واشنطن التي استعرضها اللورد بنغهام في الدول المذكورة، اعتبرها كوردسمان من طبيعة الحرب التي لن تغير منها أي قوانين، ودعا الولايات المتحدة وحلفاءها إلى تعلم العيش خلال نصف القرن القادم على الأقل في صراع مع أشخاص مدفوعين إيديولوجياً، ولا يمثلون دولة أو يخضعون لأي مفاهيم، أو يمكن السيطرة عليهم عن طريق قوانين الحرب أو قوانين حقوق الإنسان. هذا الخداع الذهني الرفيع يملك الفيلسوف الألماني نيتشه ما يقوله عنه: "قوة اقتناع ذاتية تسيطر على مؤلفيها وتجعلهم يتحدثون بإعجاز وإفحام لمن يحيطهم". فقول كوردسمان بأن هناك أضعاف ما كشفت عنه "ويكيليكس" من الأهوال، ينبغي أن يبدأ باعتبار أنها كشفت عن انتهاكات أميركية وبريطانية لـ"حكم القانون". أمّا القول بأن هذا لا يغير شيئاً في الواقع، فلن يغير الواقع. وإذا كان الباحثون يتعبون أو يموتون في الدفاع عن "حكم القانون" فإن "حكم القانون" الذي سنّته قوانين دينية ودنيوية لا يتعب ولا يموت. ويجدر بالباحث الاستراتيجي في عصرنا تأليف قصة على الأقل عما كان سيحدث لو استثمر تريليون دولار في خيار اقتصادي استراتيجي سلمي لإعمار العراق والمنطقة، بدلاً من هدر تريليونات في التدمير والقتل؟ لقد كان العراقيون الوطنيون، وما يزالون، يحافظون على أثمن أحلام هذا البلد الذي نشأ بالتوالد الذاتي في رحم الكوارث منذ فجر التاريخ. وقد يبدون الآن، كما يقول الروائي البولندي جوزيف كونراد، "كالقشة التي لا يمكن القول إنها أنقذت شخصاً من الغرق، لكني أعرف أن نظرة واحدة كافية لجعل اليأس يتوقف. لأننا، ونحن مخلوقات اندفاعية، لسنا مخلوقات يائسة".