قبل زمن ليس بالبعيد، وحتى منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي، كانت المدن الكبرى حول العالم تتعرض لوباء أو حتى عدة أوبئة سنويّاً من فيروس شلل الأطفال. وعلى سبيل المثال ففي عام 1915 فر الآلاف من سكان مدينة نيويورك إلى ضواحيها بعدما أصاب وباء شلل الأطفال المدينة مسبباً شلل 27 ألف شخص، لقي تسعة آلاف منهم حتفهم بسبب مضاعفات المرض. وحاليّاً يوجد ما بين عشرة ملايين إلى عشرين مليون معاق بسبب فيروس شلل الأطفال، كانوا قد أصيبوا بالمرض قبل اكتشاف التطعيمات القادرة على تحقيق الوقاية منه، ليشكلوا واحدة من أكبر مجموعات المعاقين بين البشر. وشلل الأطفال (Poliomyelitis) مرض مُعدٍ ينتقل إلى الأصحاء عن طريق الطعام أو الشراب الملوث ببراز المريض. وعلى عكس الاعتقاد الخاطئ بأن مرض شلل الأطفال يصيب الأطفال فقط -وهو اعتقاد ناتج عن الترجمة الخاطئة في اللغة العربية- نجد أن المرض يصيب البالغين والكبار أيضاً. بل الحقيقة هي أن احتمالات الإصابة بالشلل بعد العدوى بالفيروس تزداد بازدياد العمر. فعند الأطفال مثلًا نجد أن الشلل يصيب واحداً فقط من بين كل ألف طفل يصابون بالفيروس، ولكن هذه النسبة ترتفع إلى واحد من بين كل 75 من البالغين الذين يصابون بالفيروس. وحتى شدة وخطورة المرض تزداد هي الأخرى بازدياد العمر الذي تحدث عنده العدوى، فعند الأطفال نجد أن الشلل غالباً ما يصيب أحد الساقين فقط، ولكن عند البالغين والكبار يصيب الشلل الأطراف الأربعة، بالإضافة إلى عضلات الصدر والبطن، في شكل من أشكال الشلل التام، يؤدي إلى الوفاة في حالة إصابته لعضلات التنفس. وللأسف لا يوجد حاليّاً علاج يمكنه تخليص الجسم من الفيروس، وتحقيق الشفاء التام، ولذا تسعى التدخلات الطبية فقط إلى تخفيف الأعراض، وتسريع النقاهة، وتجنب المضاعفات. ومثل هذه التدخلات تشمل المضادات الحيوية لمنع العدوى البكتيرية من الانتشار إلى العضلات المصابة، والمسكنات لتخفيف الآلام، مع توفير تغذية جيدة وصحية للمرضى، وتشجيعهم على ممارسة الحركة البسيطة. وكثيراً ما يتطلب علاج المصابين بالشلل برامج تأهيل وعلاج طبيعي لفترات ومدد طويلة، أو سيقاناً ميكانيكية، أو أحذية طبية خاصة، وأحياناً حتى اللجوء إلى الجراحة. وعلى رغم أن فيروس شلل الأطفال لا زال متوطناً في الهند وباكستان، وأفغانستان، ونيجيريا، إلا أنه أصبح مرضاً نادراً في معظم دول العالم، وغير موجود بتاتاً في كثير منها، إلى درجة أن الآمال أصبحت تراود كثيرين بإمكانية القضاء التام عليه، ليلحق بفيروس الجدري، وليصبح ثاني فيروس في التاريخ يصيب البشر يتم التخلص منه نهائيّاً. ويعود الفضل في ذلك إلى الانتشار الواسع لاستخدام التطعيمات الطبية الواقية منذ منتصف الخمسينيات، التي أدت إلى انخفاض هائل في عدد الحالات، وخصوصاً في الدول الصناعية والغنية. وعلى خلفية هذا النجاح الأولي عقد العالم العزم على القضاء التام على الفيروس من خلال تحالف دولي بقيادة منظمة الصحة العالمية، ومنظمة اليونيسيف، والعديد من الجهات الرسمية والمنظمات الخيرية العاملة في مجال الصحة العامة. والآن، وبعد مرور أكثر من عقدين على بداية هذه الحملة انخفض عدد الإصابات السنوية بمقدار 99 في المئة ، أي من 350 ألف إصابة عام 1988، إلى 483 إصابة فقط عام 2001. وإن كانت حالات الإصابة عادت مؤخراً للتزايد، وبمتوسط ألف حالة سنويّاً، (وأكثر من 1600 حالة في العام الماضي)، وهذا إن كان اتجاهاً مؤسفاً، إلا أنه على كل حال لا يزال يشكل جزءاً بسيطاً جداً من عدد الإصابات في الماضي. ويعود جانب كبير من النجاح الدولي والإقليمي في مكافحة فيروس شلل الأطفال إلى الاعتماد على نوع من التطعيمات استخدم للمرة الأولى قبل بضع سنوات فقط، وهو التطعيم ثنائي التركيب، عن طريق الفم. وقد تم اعتماد هذا التطعيم بناء على توصيات اللجنة الاستشارية المعنية بمكافحة شلل الأطفال، وهي الجهة الفنية الدولية التابعة للمبادرة الدولية للقضاء على هذا الوباء. واعتمدت هذه التوصيات على حقيقة أن التطعيم الجديد يمكن أن يكون أداة حيوية في القضاء على الفيروس، من خلال توفيره حماية مثالية للأطفال ضد كل من نوعي الفيروس المتواجدين حاليّاً (نوع 1، ونوع 3). وهو ما من شأنه أن يسهل ويبسط بقدر هائل المتطلبات اللوجستية الضرورية لتنفيذ حملات التطعيم في المناطق النائية والخاضعة للصراعات المسلحة. وعلى الصعيد الإقليمي يذكر أن معظم دول إقليم شرق البحر الأبيض المتوسط، أنهت إجراءات التخلص من شلل الأطفال، والقضاء على الفيروس المسبب له، وتقوم كل دولة بتنفيذ تعليمات وتوصيات منظمة الصحة العالمية في متابعة الوضع الداخلي، وتقديم تقارير سنوية تتم مناقشتها بمعرفة خبراء المنظمة، وأعضاء لجنة الإشهاد التي تشكلها المنظمة للتأكد من عدم وجود الفيروس في هذه الدول. وتقوم معظم دول إقليم شرق المتوسط بالتبليغ الصفري وتأكيد خلوها من المرض، عدا كل من أفغانستان وباكستان اللتين ما زالتا تعانيان من وجود هذا الفيروس حيث تقوم المنظمة بتكثيف حملات التطعيم فيهما، للقضاء على توطن الفيروس في هاتين الدولتين. وبالنظر إلى أن العديد من أقاليم منظمة الصحة العالمية قد حققت نجاحاً مماثلًا، أصبح مطمح تخليص الجنس البشري من فيروس مرض شلل الأطفال نهائيّاً حلماً غير بعيد المنال، على عكس ما كان عليه الحال قبل عقود قليلة ماضية.