لو جاءت مبادرة العاهل السُّعودي، قبل خمسة شهور لقيل إنها مبكرة، ولابد أن يُترك الشَّأن للعراقيين في حلها، لكن أن تأتي بعد ثمانية شهور مِنْ أزمة تشكيل الحكومة، بعد الانتخابات العامة (مارس 2010)، ففيها نظر. أما الرَّافضون، فحسب تصريحاتهم: إنها مبادرة حريصة مِنْ دولة عربية جارة، لكن ليُعطى لمبادرة رئيس إقليم كُردستان العراق مداها، فالحل العراقي أفضل وأنجع. وهذا صحيح، فمِنْ الأماني أن يكون الحل عراقياً، ولكن...! وهناك مَنْ تحدث معللاً رفضه للمبادرة بهاجس المؤتمر اللبناني في الطَّائف (1989)، وأنه لا يريد طائفاً عراقياً. مع علمنا أن المؤتمر الذي وضع حداً للحرب اللبنانية (1975 -1990) ليس هو الذي رسم خريطة توزيع المناصب على الطَّوائف، وإنما كان موجوداً مِنْ قبل، وسرى عرفاً لا توثيقاً في الدُّستور. كما أن دعوة العراقيين إلى مؤتمر الرِّياض، وهذا مجرد تذكير لمَنْ كره أن تكون الطَّائف مكاناً للاجتماع لأنها مسقط رأس الحَجَّاج بن يوسف الثَّقفي (ت 95 هـ)، وما تركه هذا الوالي في نفوس العراقيين معروف ومشهور. أكتب هذا لأني لمحت إشارة أحدهم إلى ذلك، ولا أدري إن كانت هزلاً أم جداً، فكلُّ شيء يؤخذ بنظر الاعتبار عندما يتعلق الأمر بالخذلان العِراقي السِّياسي. ربما توضع السُّعودية مقابل إيران في المعادلة العراقية؛ فالطَّائفية وإن برد حديدها، إلى حد كبير قياساً بما كان في عامي 2005 و2006، ما زالت تمثل بؤرة جذب، وورقة صالحة للعب لمَنْ يريد الرئاسة، وكذلك لمَنْ طلب التَّدخل مِنْ دول الجوار. فالطَّائفيون لا يريدون، بل لا يحبذون خروج كتلة بخطاب عراقي، وهي لابد أن تكون متهمة بسُّنِّية أو شيعية. ومع ذلك لا أظن أن كُتلة مِنْ الكتل، الكبرى والصُّغرى، سترفض عرضاً إيرانياً لمؤتمر عام، إذا ما اطمأن الجميع إلى الهدف، مِنْ دون تَّحيز. القائمة العِراقية، على سبيل المثال، والتي يُشار إليها مِنْ قِبل خصومها بالسُّنَّية، وهي الخليط وبنسب متكافئة إلى حد ما، عرضت نفسها لزيارة طهران، بل وسمَّت وفدها، لكن لم تحصل على تجاوب. وإذا قارنا بتجرد بين الرِّياض وعاصمة أُخرى، مِنْ دول الجوار العِراقي، يُراد لها أن تكون مكاناً للمفاوضات العراقية العراقية، بعد فشلها داخل العراق، مثلما هو واقع الحال، سواء تبنتها الجامعة العربية أو السعودية نفسها، فستمتاز الرِّياض عن غيرها في هذا الشأن. وذلك لسببين: الأول: لابد أن تكون الدَّولة صاحبة هذه المبادرة على وئام مع الولايات المتحدة، وإلا كيف يكون الحلُّ مِنْ دون الموافقة الأميركية! دعونا من الخيالات، فمهما كانت التَّصريحات باستقلالية العراق، تبقى أميركا الدَّولة التي رضينا بزحف جيوشها لتسليم السُّلطة للقوى التي تتنافس إلى حد الصِّراع، وهي الدَّولة التي تقف ليبقى العِراق واحداً، مع اختلاف المضمون عن الشَّكل، وهي الدَّولة التي خسرت الرِّجال والمال في تلك المجازفة الكبرى، لهذا ليس لأحد تجاوزها. الثاني: ليس لدَى الرَّياض ممانعة مِنْ اشتراك شخصية دون أخرى في هذا المؤتمر، المراد عقده بعد أيام عيد الأضحى، في حال موافقة الأطراف العراقية. بينما العواصم الأُخر منها ما لها خصومة مع أميركا، ومنها ما لها ممانعة على فلان مِنْ النَّاس، عليه قضية إدانة وحُكم يصعب على تلك العاصمة إسقاطها مثلاً. لقد تبدلت الدُّنيا واستجدت السياسات، فالمملكة العربية السعودية ليست هي سلطنة نجد في عام 1922 عندما كان الإخوان الوهابيون يعبرون الحدود لنشر عقيدتهم، والعراق ليس كما كان موطناً لمخاوف دول الجوار. لقد أسس الملك فيصل الأول (ت 1933) والملك عبدالعزيز آل سعود(ت 1953) من على ظهر البارجة "لوبن" عام 1930، لجيرة استمرت سليمة في العراقين الملكي والجمهوري. حيث وضع لقاء "لوبن" حداً لحروب طويلة كان يقوم بها الإخوان على العتبات المقدسة بكربلاء والنَّجف. وكان أشد الأزمات بين البلدين هي أزمة المخافر، عندما قررت الحكومتان البريطانية والعراقية (1928) فتحها لحراسة الحدود، من جهة السَّماوة، وبالمنطقة الصَّحراوية المعروفة بمنطقة بصية حالياً. حتى احتلال الكويت (1990) لم تشب العلاقات العراقية السعودية شائبة بعد ثورة 14 تموز 1958، وإسقاط النِّظام الملكي، بل ظل اجتماع البارجة "لوبن" أساساً في علاقة الجوار بين البلدين، فقُبلت وساطة السعودية في خروج ما تبقى مِنْ أقارب العائلة المالكة، بعد لجوئهم إلى سفارتها في اليوم الأول للثورة. يضاف إلى ذلك أن الخصومة مع مصر النَّاصرية مِنْ قِبل العِراق الجمهوري والمملكة العربية السعودية معاً جعلت البلدين على وئام ومصالحة، وإن اختلفا في التَّوجه. حاولت التذكير بتلك الصِّلات بعد ملاحظة تصريحات وكتابات ضد المبادرة غرقت في التاريخ، فغاب عنها ما حدث مِنْ تبدل في سياسات الدُّول على مستوى المنطقة والعالم. إنها بادرة حَسنة بعد أن قبلت الرَّياض بالجميع، وكانت متوجسة مِنْ هذا السِّياسي أو ذاك. فإطلاق مبادرة مثل هذه، مِنْ أية عاصمة جارة تتوافر فيها الشروط، سالفة الذِكر، تشي باهتمامٍ وإدراك لأن شأن العِراق يهمها، وما ستسفر عنه أزمته سيصيبها في الصَّميم، وستكون عليها التزامات اعتبارية تجاه العِراق، وستساعد سواء في إطار الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، مع تقوية الموقف المشترك ضد الإرهاب، والذي يهدد البلدين على مدار السَّاعة. وقد سبق أن كانت مبادرة مكة المكرمة (رمضان 2006)، لإنهاء أو تخفيف الاحتقان الطَّائفي، بين علماء المذهبين العراقيين، بادرة إيجابية، لم تكن حاسمة لكنها أسفرت عن صدور "وثيقة مكة" القاضية بموقف جماعي ضد العنف. لتُؤخذ المبادرة، التي نحن بصددها، بهذا الإطار. قد لا تحل الأزمة، لكنها ستشعر السِّياسيين العِراقيين بخطورة الحال، وبتأمين موقف واحد مِنْ أهم دول الجوار لصالح استقرار العِراق وأمنه. نعم، لدُول الجوار مصالح، واستقطابات مِنْ دون استثناء، وهذا شأن السِّياسىة إقليمياً ودولياً، لكن لا نظن أن ساسة تلك الدُّول لم ينظروا في حجم الضرر مِنْ تأزيم الوضع بالعراق، ومِنْ عودة العنف، فالنَّار بالعراق لا تبقي ولا تذر! ولا خشية مِنْ طائف عراقي فالمكان الرِّياض والعِراق غير لبنان.