على القوى العربية، دولًا، وتنظيمات اقتصادية وثقافية، أن تضع استراتيجية عربية موحدة تخاطب بها الأفارقة حلمي شعراوي يتصور المرء أنه بوجوده وسط نخبة من المثقفين العرب لمناقشة أحوال البلاد سوف يصل لقدر أكبر من الفهم للمشاكل الأقرب على الأقل، مشاكل جوارها مع الآخرين، وأنه سيضع يده على آليات أكثر اقتداراً لتيسر الحوار مع هذا أو ذاك من الجيرة التاريخية التي عرفها العرب، تمهيداً للانطلاق إلى تحديد المواقف الأصلب تجاه "الآخر" في آفاق الأرض، إنْ لم يكن في القلب من بلادنا أيضاً. إلا أنني كلما اقتربت من هذا الإحساس، وجدت الأرض ملغومة بالمعارف والرؤى، التي لا تكشف إلا عن صعوبات كامنة في الأرض التي نقف عليها نحن أنفسنا، وتحتاج منا لتطويرات عميقة وحقيقية لم يسعدنا الحظ بتحقيقها. حدث لي ذلك عندما تصورت أن الأمر يتعلق بأفريقيا فقط والتي أدعي معرفتي لبعض شؤونها، ولكني فوجئت بالأصدقاء في منتدى "الاتحاد" الذي عقد مؤخراً يحومون حول نفس المعنى بصور مختلفة، تجاه الحوار مع إيران، ومع تركيا، ومن ثم تصعب الصورة الكلية، في علاقتنا بالغرب والشرق، ناهيك عن زعم المواجهة مع إسرائيل! فتركيا صاحبة مشروع اقتصادي مستقبلي أخطر من أن تكون مجرد "عثمانية جديدة"، وإيران متعددة الأبعاد الدينية والاستراتيجية الوطنية، وليست مجرد صاحبة تكتيك طائفي، بينما بعض نظمنا، وكثير من قوانا السياسية غارقة في "مانيا النموذج التركي" أو الرعب الإيديولوجي الإيراني! وفي الحالتين، يتأمل الكثيرون أحوالنا إزاء ذلك، اقتصاداً أو فكراً، فلا يسعهم إلا الشفقة. أو الدعوة لتفكير استراتيجي بعيد المدى، لا تتاح له فرصة، من واقع أعمار كثير من المفكرين! لقد بدت لي الأمور أكثر تعقيداً أحياناً في أفريقيا، أو في "الجوار الأفريقي " بما لم يتم حسمه في أجواء حركة التحرر الوطني العربية من قبل أو أجواء التعاون العربي الأفريقي من بعد. حاولت أن أقدم صورة مختلفة لما بدا محبطاً من صورة إيران أو تركيا. قلت للزملاء لماذا لا نتامل الواقع العربي أولاً لنرى مدى صلاحيته للجوار الطيب والحوار الفعال مع أفريقيا هذه التي تسيئون النظر إليها والتوقعات من قبلها؟ والسؤال الذي أشارك فيه الجميع أولاً هو أي عرب تقصدون؟ هل ثمة كتلة عربية تنشد اللقاء الجماعي مع الجوار الأفريقي؟ تأملت الواقع العربي تجاه أفريقيا فوجدته ملغوماً من داخله بما لا ييسر ذلك الحوار الفعال الذي نتوقعه. فالعالم العربي هو ذلك الذي يمتد على ثلاثة محاور مثيرة، بين المغارب، وحوض النيل، والجزيرة والمشرق. ولا تتيح مصادر القلق وتعدد الخطط الآن في منطقة المغارب من الصحراء، للإرهاب، للمشروعات الخاصة مجالًا للاتفاق على خطط نحو دول الصحراء الكبرى، أو حقول استثمار متاحة للجزائر وليبيا، فمن ذا الذي سيقود هذه العملية الانتقائية المقترحة لضم تشاد وحدها مثلا إلى عالم أو رابطة الجوار العربي في هذه المنطقة؟ وحوض النيل ملغوم بدوره ومهدد في مستقبله القريب والبعيد، من تساؤل حول مصير الدولة الجديدة المتوقعة في جنوب السودان، أو في مشروعاته التنموية حول مصادر المياه وسدودها؟ إن قنبلة الجنوب وحدها كفيلة أن تهدد ترابطاً مع مجموعة "الإيجاد" ومنظمة "كوميسا" ، ومشروعات"النيباد" الزراعية والبيئية... فأين إذن فرص الحوار مع هذا الجوار! أما القرن الأفريقي في علاقاته مع دول البحر الأحمر والجزيرة العربية، فإن الإهمال العربي لأطرافه في الصومال وجيبوتي وجزر القمر، يرتد الآن إلى أعناقنا تفتتاً للدولة الصومالية، وقواعد أجنبية في جيبوتي، ولقمة سائغة لفرنسا في المحيط الهندي، ومن تلك المواقع جميعاً تنطلق القرصنة، بل ويصبح مدخل البحر الأحمر والمطلون عليه ساحة لصراع طائفي ودولي، ونحن في عزلة عن أريتريا وحتى أثيوبيا وكينيا بما لا يجعل للجوار معنى. وقد قال قائل، بل أكثر من قائل، إن أفريقيا ليست أسعد حالاً لنسعى إليها، وأنها قد لا تضيف جديداً، حتى لو سعينا إليها، فصور التفتت والفساد، والاستبداد والتخلف متعددة ومعوقة لأي اقتراب من القارة. وقد أزعجتني دائماً صورة أفريقيا تلك لدى العرب، كما تزعجني بالطبع أحياناً صورة العرب أنفسهم لدى الأفارقة. ويا ليت الأمر يتعلق فقط بأدبيات أو دراسات الصورة المتبادلة للشعوب، التي تعاني منها بعض السياسات بالطبع .لكن المسألة هنا تبدو مزعجة أكثر عندما تتعلق بتعطيل الحوار والاستثمارات، والتعاون بأشكاله المختلفة. وقد تفضل بعض المشاركين في الندوة بمعارضة هذه الصورة الأفريقية عند العرب، مستشهداً بعدد الرؤساء الأفارقة ممن انسحبوا من الحكم طواعية، أو الدول التي عرفت تداول السلطة، أو معدل التنمية الذي يفوق عدداً كبيراً من الدول العربية، أو الحرص على تنوع العلاقات الخارجية مع أكثر من دولة كبرى خلافاً لما يجري على الساحة العربية ...الخ لقد ساعدني ذلك في طرح أساس "دفاعاتي" عن الواقع الأفريقي الصالح للحوار بالفعل، لو صلح الموقف العربي لذلك. وأنا أنطلق في طمأنة الجانب العربي دائماً بأن "التنظيمات الإقليمية" الأفريقية قد أصبحت مع الوقت "مؤسسات تنظيمية " ذات قيمة وفعالية، وأن تلك التنظيمات تتفاعل محلياً بشكل طيب، وتتفاعل مع التنظيم الإقليمي الأشمل مثل"الاتحاد الأفريقي" بشكل يعطيه قيمة جماعية أو تكاملية لا تخفى على أحد، وينطبق ذلك على ما يمكن تأمله من أدوار في هذه الأقاليم للقوة الإقليمية التي تحققها بعض الدول داخل هذه التنظيمات، مثل وجود جنوب أفريقيا في تنظيم منطقة "سادك" الجنوبية، ووجود نيجيريا كقوة إقليمية في منطقة غرب أفريقيا (الإيكواس)، ووجود إثيوبيا أو كينيا في الشرق الأفريقي والقرن الأفريقي في تنظيم "الإيجاد". أما الشمال الأفريقي العربي، فهو الذي لا يعرف هذا الانتظام في تنظيم فعال! فما الذي يعنيه ذلك؟ أن العرب من طالبي الحوار مع دول الجوار، لا ينفع أن يتصرفوا "كقوة إقليمية كبرى" – وهم على هذا الحال – ليفرزوا دول الجوار فرادى مثل القول بالجوار مع تشاد أو إثيوبيا كمرشحين لرابطة الجوار، وأن علينا أن نتصور أفريقيا ككتلة متنوعة العناصر، يجدر بنا التعامل معها في إطار مثل التعاون العربي- الأفريقي. وأن هذا التعاون تنقصه وحدة الكتلة العربية نفسها وليس العكس، أي أن على القوى العربية، دولًا، وتنظيمات اقتصادية وثقافية، أن تضع استراتيجية عربية موحدة تخاطب بها الأفارقة، ونحن كتلة كبيرة بينهم، كمجموعة فعالة من الدول نريد الاقتراب منها من زوايا مختلفة، يمكن أن يتقدمها الثقافي والفكري بدلًا من سيطرة التوجه الاقتصادي السائد حتى الآن. وبهذا العمل الثقافي المكثف يمكن أن يكتشف الجميع مواقع أقدامهم في إنجاز بنية حوار وجوار حقيقية.