هنالك حقيقة اعتبرها البشر على مدى قرون طويلة غير قابلة للدحض، وهي أن الأمومة والطفولة تمثلان توأماً تأسيسياً في تاريخ البشرية عموماً. وقد أتت العلوم الاجتماعية والتربوية خصوصاً لتؤكد عليها، مع إضافة عوامل حاسمة أخرى، مثل العمل والإنتاج المجتمعي من طرف أول، والذكورة (ولا نقول الأبوة) من طرف آخر. وانطلاقاً من نزعات وأفكار تهتم بحقوق الإنسان، راحت تتتالى في الظهور مع القرن السابع عشر، حيث أخذت نظريات تكريس العبودية تتلاشى شيئاً فشيئاً، كان الاهتمام بالتوأم المذكور يتصاعد أكثر فأكثر، وكان بيان حقوق الإنسان الذي انبثق عن منظمة الأمم المتحدة عام 1948، قد جعل هذا الاهتمام مطلباً قانونياً على الصعيدين الوطني والدولي، وذلك في سياق اتساع وتعمُّق اتجاهات استغلال الإنسان بعوامل انطلقت من النظام الرأسمالي الدولي، وظهور تمييز خاص ومحدد لاستغلال المرأة في حقوقها العامة والخاصة، ومن ذلك عدم الاعتراف بعمل المنزل كعمل اجتماعي مأجور، بصيغة أو بأخرى. والطريف في ذلك أن المرأة نفسها بسبب جهلها الثقافي التاريخي واستغلالها واضطهادها، كرَّست هذين الآخرين، حيث رأت أن دخولها سوق العمل الاجتماعي إنما هو نمط من استباحة المرأة. وانعكس ذلك على الطفولة، حيث امتلك الطفل نسبة من نسب الأب وحده...إلخ. ورغم التحولات العظمى على صعيد البِنى السوسيواقتصادية والتكنولوجية وغيرها، فقد كان وضع المرأة متردياً، ومتردياً كذلك وضع أسرتها التي لم يُنظر إليها، حتى مراحل متأخرة من التطور التاريخي، بوصفها حالة يمكن أن تمتلك -في ظروف معينة- اعتباراً اقتصادياً وتربوياً وأخلاقياً مهماً. وفي سياق ذلك كله، ظلت الطفولة، الأولى تخصيصاً، مهملة، اعتقاداً بأنها لا تدرّ "ريعاً مادياً". لكن ذلك الوضع راح يتغير ويعيش حالة جديدة من الاهتمام، وخصوصاً حين وصل البحث العلمي والممارسة "الاجتماسياسية" والثقافية، بالاعتبار المادي البراجماتي، إلى ما أصبح يمثل مقولة ذات أهمية قصوى في المجتمعات المتقدمة، مفادها: أن الإنسان هو أهم بل أخطر ما يمكن استثماره في كل المجتمعات، وذلك بالاعتبارات الواردة. ثم راحت مقولة أخرى من الحقل المعنِي نفسه، تجد تسويقاً كبيراً، وهي: الإنسان أثمن رأسمال في العالم، ربما في كل أنماط المجتمع البشري وبحسب ما يسمح به هذا أو ذاك من تلك الأنماط. ومع تعاظم التقدم في العالم، الذي أنتج الثورات الزراعية والصناعية والتكنولوجية وغيرها، ظهر أن هذا "الإنسان" هو العامل الأول في ذلك الأمر، على عكس ما أخذ يُروَّج له منذ نشأة النظام العولمي، الذي راح يبشر بـ"نهاية الإنسان ونهاية التاريخ"...إلخ. أما العالم العربي، فقد ظل سجين "الآخر"، مع تلك الثورات ومع آخرها الراهنة، ثورة المعلومات والاتصالات، وبدأ بعض التثاؤب والتساؤل يطرح نفسه، وتحت ضربات التهديد الوجودي للعرب وغيرهم من شعوب العالم من قِبل المارد العولمي، المتطلع إلى إعادة بناء العالم في إطار من "سوق كونية" تتخطى الخصوصيات والهويات والأوطان، أخذنا نلاحظ دعوات تلو أخرى للخروج من ذلك المأزق التاريخي. في ذلك الإطار الجديد والداعي إلى الاستفزاز و"العصف الفكري"، راحت تظهر هنا وهناك تلك الدعوات لمواجهة ذلك كله عبر أدوات جديدة، تتمثل في مؤتمرات دولية أو دولية إقليمية تتناول ما يمثل -الآن- تحدياً للعرب وغيرهم. وفي ضوء ذلك كله، ظهرت الدعوة إلى عقد "مؤتمر عربي إقليمي لرعاية الطفولة المبكرة" في سوريا. وقد حدث ذلك منذ أسابيع في دمشق، حيث ظهر ذلك في مجموعة من الجلسات، التي اشترك فيها ثُلة من الباحثين تناولوا الموضوعات التالية وغيرها: دعم الأطفال للفئة العمرية من الميلاد إلى سن الثالثة، وتبنّي الأرقام الصحيحة، والاعتماد على مرجعيات موثقة في الأبحاث المطروحة، والاهتمام ببرامج الطفولة المبكرة، واعتماد المنهج التكاملي في العمل.... هل يثمر ذلك حقاً؟ د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق