بعيداً عن أي أزمة محددة تواجه أيّاً من الدول العربية فإن الصورة الكلية لما يجري في الوطن العربي تحمل في طياتها نذر قلق عظيم على المستقبل المنظور. صحيح أن الأزمات العربية ليست جديدة، وبعضها يعود إلى سنوات إن لم يكن لعقود خلت، غير أن المؤشرات تشير إلى أنها قد بدأت تتخذ طوراً خطراً في الآونة الأخيرة، وبات عديد من الدول العربية -إن لم يكن معظمها- يعاني إما من أزمات تهدد كيان الدولة ذاتها أو أزمات تمس استقرارها السياسي على نحو واضح. ولا حاجة بنا إلى تذكر ما جرى ويجري في الصومال منذ عقدين من الزمان، فقد تفككت الدولة، وانعدم الاستقرار السياسي في كثير من أرجائها، وبدا أن الاهتمام العربي بها غائباً أو في حده الأدنى، ولكن المسألة لا تقف عند الصومال بطبيعة الحال، ومن يتأمل أحوال السودان في الأسابيع الأخيرة لابد وأن ينهشه قلق عظيم. ليس لأنه مقبل على الأرجح على انفصال جنوبه عن شماله إعمالاً لحق تقرير المصير لأهل الجنوب وفق اتفاقية السلام الموقعة في2005، ولكن لأن الغيوم بدأت تتلبد في سماء الاستفتاء القريب، فما عدنا ندري ما إذا كان الشمال جادّاً في عقد الاستفتاء في موعده أم لا، في الوقت الذي لا يوجد فيه أدنى شك في أن الجنوب مصرٌّ على ذلك، ولو لم يجر الاستفتاء في الموعد المحدد له في التاسع من يناير القادم فستحدث تداعيات لا قبل لأحد بالتنبؤ بمداها. وفي الأغلب ستبدأ هذه التداعيات بإجراء الجنوب الاستفتاء أو حتى إعلان الانفصال من جانب واحد، وهو ما سيخلق بدوره مشكلة حقيقية بين الشمال والجنوب، وليس التصعيد العسكري بين الطرفين بمستبعد في كل الأحوال. بل إن إجراء الاستفتاء في موعده في هذه الظروف سيحمل معه مشكلة كبرى للسودان، لأنه إما أن يؤدي إلى الحفاظ على الوحدة، وهو ما لن يرضي التيار الرئيسي في الجنوب أو -وهذا هو السيناريو شبه المؤكد- يفضي إلى انفصال لا يبدو أن كلاً من الشمال والجنوب لديه رؤية محددة بشأن إدارة العلاقات بينهما بعده، ناهيك عن أن كلاً من الطرفين سيعاني من مشكلات داخله كدارفور في الشمال والقوى المناوئة للحركة في الجنوب، وهذا كله إن نسينا أن دولة الجنوب عندما تنشأ ستكون بحكم تصريحات رئيسها المرجح سيلفا كير دولة صديقة لإسرائيل تقيم معها علاقات دبلوماسية لأنها "عدوة للفلسطينيين وليس لأهل الجنوب". وثمة مشكلة أخرى في العراق، ذلك البلد المنقسم على نفسه بفعل الغزو الأميركي والاختراق الإيراني والتفكك الداخلي، وانعكاسات ذلك كله على غياب القدرة على تحقيق إجماع وطني أو على الأقل بلورة تيار قوي للأغلبية يمكنه تشكيل حكومة فاعلة بعد انتخابات مضى عليها الآن أكثر من سبعة شهور، وهو ما يعني أن العراق معرض لمزيد من موجات عدم الاستقرار طالما بقي حاله على ما هو عليه. وفي اليمن تستمر عوامل عدم الاستقرار والتفكك في التأثير على كيان دولة الوحدة اليمنية، فما زالت مشكلة "الحراك الجنوبي" دون حل وإن بقيت حتى الآن في حدودها المعروفة، واستؤنفت منذ أيام بعض المناوشات بين الحوثيين وأنصار الحكومة، وهو ما يكشف أن وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في فبراير الماضي لم يؤد -كما تنبأ الكثيرون- إلى حل أو حتى تسوية بين الحكومة اليمنية والحوثيين. ومعروف أن الصراع كان قد امتد إلى السعودية قبل وقف إطلاق النار، وبالتالي كان لابد وأن تدخل المعركة بثقل عسكري واضح، ومعروف كذلك أن التصريحات الرسمية الإيرانية تشي بتأييد الحوثيين ولو على نحو غير مباشر، ومن هنا صارت قضية الحوثيين قضية يمنية عربية إقليمية. ومن ناحية ثانية فإن التطورات والملابسات الأخيرة المحيطة باليمن، والمتعلقة بشحن متفجرات ملغومة من مطار صنعاء إلى مطار دبي في طريقها إلى أهداف محددة في الولايات المتحدة لاشك تثير بدورها قلقاً عظيماً. وتأتي بعد ذلك بؤرة التوتر الرابعة في لبنان، حيث يبدو أن خريطة القوى السياسية الداخلية وتشابكاتها العربية والإقليمية والدولية لا يرجى منها خير في المنظور القريب لاستقرار لبنان، ومعروفة هي التوترات المستمرة في لبنان بين فريقي 14 آذار و 8 آذار، ولكن التطورات حملت معها في الأيام الأخيرة نذر صدام محدد، فواقعة التعرض في ضاحية بيروت الجنوبية لعناصر تحقيق تابعة للمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري أفضت بالسيد حسن نصر الله الأمين العام لـ"حزب الله" إلى دعوة اللبنانيين كافة لمقاطعة المحكمة، وهو ما خلق موقفاً ملتبساً، ففريق الموالاة لا يمكن له أن يتنصل من الالتزام اللبناني بالمحكمة، وفريق المعارضة يشكك أصلاً في قانونية المحكمة باعتبار أن الالتزام اللبناني بها فاقد أصلاً لبعض مقوماته القانونية على أساس أن رئيس الجمهورية السابق لم يوافق أصلاً على هذا الالتزام، ويرى هذا الفريق كذلك أن عناصر التحقيق التابعة للمحكمة قد استباحت أمن اللبنانيين وحرياتهم بالنظر إلى أن آخر نشاط لها تم في عيادة طبية للأمراض النسائية بحثاً عن أرقام هواتف(!) وهو ما يبدو عملاً غير مقنع من وجهة نظر الكثيرين الذين يصعب عليهم إدراك العلاقة بين تصرف كهذا وبين اغتيال الحريري. والمشكلة أن أحد السيناريوهات المتوقعة للمستقبل القريب في لبنان يتمثل في صدور القرار الظني باتهام "حزب الله" أو عناصر منه بالضلوع في اغتيال الحريري، وهو قرار لابد وأن يرفض "حزب الله" الامتثال له على غرار مواقفه السابقة والمعروفة، الأمر الذي قد يفضي إلى أزمة طاحنة في لبنان لن تكون كغيرها من الأزمات. ويأتي كل ما سبق في وقت يستمر فيه الانقسام الفلسطيني وتخفق مرة تلو أخرى محاولات الصلح بين "فتح" و"حماس"، ويزداد فيه اليقين بعقم المفاوضات مع الإسرائيليين كآلية لاسترداد ولو بعض الحقوق الفلسطينية، ويعاني فيه عدد من الدول العربية من عدم استقرار ظاهر وانقسامات مجتمعية وسياسية، فضلاً عن أن دولاً تبدو أحوالها هادئة على السطح قد تكون مرشحة لانفجار وشيك بسبب ممارسات غير ديمقراطية معروفة. ويخلق هذا كله للأسف مناخاً مثاليّاً لتعاظم الاختراق الخارجي للوطن العربي الأمر الذي يقتضي وقفة عاجلة وأمينة مع النفس تحسباً لأهوال قادمة، غير أن ما يزيد الخطر أكثر هو الانطباع بأن أحداً لا يهتم بتجميع قطع الصورة الكلية، ومن ثم فإن القدرة على استشراف المستقبل القريب تبدو غائبة ومعها بطبيعة الحال القدرة على التخطيط تحسباً له وسعياً إلى الحد من تداعياته الخطيرة على الأمة.