في حديثنا السابق عن المعضلة الديمقراطية والحركات السياسية، قررنا أن بعض هذه الحركات تعوق في الواقع بممارساتها النمو الديمقراطي في العالم العربي. وأحياناً ما تمثل بعض هذه الحركات التطرف الإيديولوجي الذي يدفع بها إلى ممارسة العنف ضد الدول القائمة، والذي يصل إلى حد ممارسة الإرهاب المنظم، سعياً إلى قلب الأنظمة السياسية القائمة، بدعوى أنها لا تطبق شرع الله، وبعضها الآخر لا يمارس العنف ولكنه يرفع نفس شعارات الحركات المتطرفة، وخصوصاً فيما يتعلق بعدم شرعية الأنظمة السياسية لأنها تطبق التشريعات الوضعية، أو لأن المجتمعات نفسها كافرة وجاهلية، كما كان يقول سيد قطب منظم التطرف في العالم الإسلامي، الذي خرجت من معطفه كافة التنظيمات المتطرفة الإسلامية. وإذا أضفنا -في حالة مصر على وجه الخصوص- نشوء حركات سياسية انشقاقية وإن كانت ضعيفة ومشتتة، تدعو ليس لمعارضة النظام السياسي المصري بل لضرورة الانقلاب عليه وإزاحته تمهيداً لنظام سياسي جديد غامض الملامح، فإننا في الواقع نكون بصدد مشهد سياسي عربي بالغ التعقيد، وذلك لأن الدول العربية الراهنة -على اختلاف أنماط نظمها السياسية- تحاول من خلال عملية واسعة من الإصلاح الديمقراطي الانتقال -بدرجات متفاوتة في سرعة الإيقاع- من عصر الشمولية والسلطوية إلى عصر الديمقراطية والليبرالية. وهذا التوجه نحو الإصلاح الديمقراطي مرده إلى ضغوط الخارج ومطالب الداخل على السواء. أما ضغوط الخارج فهي تتمثل أساساً في انتقال المجتمع العالمي إلى عصر العولمة. والعولمة هي الظاهرة الكبرى التي تملأ العالم وتشغل الناس. وهناك خلافات إيديولوجية كبرى بين أنصار العولمة وخصومها، أو بعبارة أخرى بين "منتدى دافوس" الذي ينعقد سنويّاً ويحضره كبار الزعامات الرأسمالية العالمية، وبين "المنتدى الاجتماعي" الذي يحتشد فيه خصوم العولمة. وبعيداً عن هذه الخلافات الإيديولوجية، فقد حاولنا الاقتراب من جوهر عملية العولمة، بصياغة تعريف إجرائي لها يساعد على فهم مفرداتها الرئيسية. وقد ذكرنا هذا التعريف أكثر من مرة في دراساتنا وكتبنا عن العولمة. وبمقتضاه فالعولمة هي "سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر من مكان إلى مكان آخر في العالم، بدون قيود ولا حدود". وفي ضوء هذا التعريف حددنا تجليات العولمة المختلفة. فهناك أولاً تجليات سياسية للعولمة تتمثل في ضرورة احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة. وهناك ثانيّاً تجليات اقتصادية للعولمة تتمثل في توحيد السوق العالمي الاقتصادي، وفتح المجال واسعاً وعريضاً أمام الاستثمارات الاقتصادية، وإلغاء كافة صور الدعم، والنفاذ إلى كل الأسواق الوطنية، وتصفية شركات القطاع العام من خلال برامج الخصخصة، وفرض الإصلاح الاقتصادي الذي يهدف إلى تحرير السوق على كل الدول النامية، واستخدام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لفرض برامج التكيف الهيكلي. وهناك ثالثاً تجليات ثقافية تقوم على أساس محاولة صياغة ثقافة كونية تسعى إلى تقنين نسق عالمي من القيم يحكم سلوك البشر في كل مكان، وتهدف إلى تحقيق ضرب من ضروب التوحيد الثقافي في كل مكان في العالم. وهناك اعتراضات من قبل بعض المفكرين والمثقفين في الدول النامية إزاء هذا التوجه، على أساس أن الثقافة الكونية البازغة والتي تساعد على ذيوع مفرداتها ثورة الاتصالات العالمية، قد تصطدم مع بعض ثوابت الخصوصية الثقافية لبعض المجتمعات والثقافات غير الغربية. ولدينا أخيراً تجليات اتصالية للعولمة تتمثل في أن العالم -كما يقرر عالم الاجتماع البريطاني الشهير أنطوني جيدنجز- أصبح كله متصلاً. ولو تركنا جانباً مختلف تجليات العولمة وركزنا على التجليات السياسية، سندرك أن مطلب الديمقراطية يتصدر بدون منازع هذه التجليات. ولذلك اتجهت مختلف عناصر المجتمع العالمي، بما في ذلك الدول ومؤسسات المجتمع المدني، إلى اعتبار الديمقراطية ضرورة لتقدم البشرية، وأنه ينبغي الضغط المنظم سواء كان سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو ثقافيّاً على الدول الشمولية والسلطوية وخصوصاً في العالم العربي، لتفكيك البنى غير الديمقراطية وإفساح الطريق أمام الإصلاح السياسي الجذري. وإذا أضفنا إلى ذلك أن مطالب الداخل في المجتمع العربي على اتساعه تصاعدت من قبل طوائف شعبية، وفي مقدمتها طلائع المفكرين والمثقفين العرب لتحقيق الديمقراطية، سندرك أن الدول العربية المختلفة أيّاً كان نظامها السياسي ملكيّاً أو جمهوريّاً أو "ثوريّاً" أصبحت مطالبة بتحقيق الديمقراطية. وقد لجأت بعض الدول العربية إلى أساليب شتى لتحقيق هذا الهدف. في مصر -على سبيل المثال- تمت تعديلات دستورية بالغة الأهمية، أهمها على الإطلاق تحويل الانتخابات الرئاسية من نظام الاستفتاء إلى نظام الاقتراع الحر الذي يتيح للناخبين أن يصوتوا لمرشحين متعددين لرئاسة الجمهورية. وقد تمت عام 2005 أول انتخابات تنافسية في تاريخ مصر السياسي، ودخل إلى حلبة المنافسة عدة مرشحين في مواجهة رئيس الجمهورية مبارك، الذي فاز فيها بأغلبية واضحة. غير أن التعديل استقر، وستدخل مصر في عام 2011 الانتخابات الرئاسية الجديدة. وقد سمحت هذه التعديلات للمستقلين بأن يرشحوا أنفسهم للرئاسة، وإن كان بشروط بالغة الصعوبة. وقد تم ذلك بالإضافة إلى تعديلات دستورية أخرى مهمة. وفي بلاد أخرى يسودها النظام الملكي مثل المغرب تمت ممارسات ديمقراطية من نوع مختلف، تمثلت أساساً في مبدأ "التوالي السياسي" الذي يسمح للمعارضة بتشكيل الحكومة، مما يمثل تطبيقاً بالغ الخصوصية لمبدأ تداول السلطة. وفي المغرب أيضاً تمت المحاسبة حول حوادث مخالفة حقوق الإنسان في عهد الملك السابق، وأذيع في وسائل الإعلام ما يشبه المحاكمات العلنية للمسؤولين عنها. وإذا كان إيقاع الإصلاح الديمقراطي يختلف من بلد عربي إلى بلد آخر، إلا أنه يمكن القول إن هناك ضغوطاً شعبية غير مسبوقة على كافة النظم السياسية العربية لكي تمضي قدماً في مجال الإصلاح. ولعل نمو مؤسسات المجتمع المدني في عديد من البلاد العربية وعلو صوتها في مجال المطالبات الديمقراطية وفي الدفاع عن حقوق الإنسان من المؤشرات الكافية على ذلك. وإذا أضفنا إلى هذا نمو المدونات العربية على شبكة الإنترنت، وتحولها إلى منابر نشطة للمعارضة السياسية وشيوعها في كل البلاد العربية، سندرك أن أجيال الشباب العربي التي وضعت بعض الحكومات السلطوية العربية أمامها عديداً من القيود منعتها من التعبير عن نفسها، قد أطلقت لنفسها العنان في الفضاء المعلوماتي. وأصبحت المدونات قوة من قوى الدفع نحو الديمقراطية. وإذا كان ما ذكرنا هو الملامح الرئيسية للمشهد السياسي العربي الراهن، فإنه يمكن القول إن الحكومات العربية ليست هي القوى الوحيدة التي تمارس السياسة، فهناك حركات سياسية إسلامية متطرفة عديدة معارضة للدولة العربية الراهنة، وتحاول الانقلاب عليها وفرض نموذج الدولة الدينية، الذي يقوم على أساس رفض النظم السياسية الوضعية الراهنة وتطبيق الشريعة الإسلامية، وما يقتضيه ذلك من تغيير الدساتير القائمة. وهذه الحركات السياسية الإسلامية المتطرفة حاولت من قبل عن طريق الإرهاب الصريح تحقيق هذا الانقلاب الديني، إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً نتيجة نجاح الحكومات العربية المختلفة في القضاء على منابع الإرهاب، وتصفية الجماعات الإرهابية. غير أن الجماعات الإسلامية المتطرفة وإن تركت العنف الصريح ظاهريّاً إلا أنها انتقلت إلى مجال ممارسة العنف الفكري عن طريق نشر إيديولوجيا دينية متطرفة. ومثال هذه الحركات في المغرب العربي جماعة "العدل والإحسان" في المغرب و"الحركة الإسلامية" في الجزائر، وكذلك "الإخوان المسلمون" في مصر. ولنا جولات مقبلة لتحليل أوضاع هذه الجماعات، التي مهما اختلفت في أبنيتها التنظيمية، فإنها أجمعت على تبني مبدأ الانقلاب على الدول العربية الراهنة، لتأسيس الدولة الدينية!