"الخيال أكثر أهمية من المعرفة"، يقول ذلك عالم الفيزياء أينشتاين. ويبدو تصنيف جامعتين عربيتين للمرة الثانية في قائمة الجامعات العالمية عملاً من أعمال الخيال. المجلة البريطانية "التايمز للتعليم العالي" صنّفت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المرتبة 349، وجامعة الملك سعود في المرتبة 363. ونالت الجامعات الأميركية والبريطانية الأولوية في تصنيف "التايمز"، وهي على التوالي "هارفارد"، و"كاليفورنيا للتكنولوجيا"، و"ماساشوسيتس للتكنولوجيا"، و"ستانفورد"، و"برنستن"، تتبعها الجامعتان البريطانيتان "كامبردج" و"أوكسفورد". وهيمنت جامعات هذين البلدين على التصنيف، حيث احتلت 53 جامعة أميركية الصدارة في قائمة أفضل 100 جامعة في العالم، فيما بلغت حصة بريطانيا 14. لكن الرياح الشرقية قادمة، وقد نالت جامعة "بكين" المرتبة 37، وصُنفت 6 جامعات صينية ضمن أفضل 200. وكانت جامعتا "الملك سعود" و"الملك فهد" قد احتلتا على التوالي المرتبتين 391 و480 في "تصنيف شنغهاي"، الذي ينال قبولاً علمياً أوسع من "التايمز" بالرغم من، وربما بفضل نشأته المتواضعة في كنف "جامعة شنغهاي". فالأكاديميون، كباقي المهن، لا يثقون إلاّ بالأكاديميين، والتصنيف الصيني يعتمد بالكامل على البحث الأكاديمي. ويعتبر الصينيون الأداء البحثي المرجع الوحيد الموثوق الذي يمكن اعتماده في التصنيف، لشفافيته، وكونه في المتناول عالمياً، وقابل للقياس، فيما تستحيل المقارنة في التعليم والتدريس، بسبب الفروق الهائلة بين الجامعات والبلدان، وللصعوبات الفنية في الحصول على معطيات قابلة للمقارنة. ولا يعتمد الصينيون على التقييمات الذاتية للصفوة العلمية، ولا المعلومات التي تقدمها الجامعات عن نفسها. وتكشف ثقة المجتمع الأكاديمي العالمي بالتصنيف الصيني تهافت تصنيف "التايمز" الذي أعلن عن تعديلات على معاييره بعد انتقادات عدة وجهت لاعتمادها الكلي على صيت الجامعات. واعترف "فِل باتي"، محرر تصنيف "التايمز" بأن المعايير "لم تكن جيدة، واعتمدت بنسبة 40 في المئة على الصيت، وعانت من ضعف خطير، وأعطت الأفضلية للعلوم على حساب الإنسانيات". وقال إن المعايير الجديدة تولي الأهمية لأداء الجامعات، وتفاعلها مع البيئة المحيطة، وسمعة وتأثير بحوثها العلمية، إضافة إلى السمعة العالمية لأعضاء هيئتها التدريسية، وخريجيها. واضطرت "التايمز" بسبب التشكيك بطرق استقصاءاتها إلى الاستعانة بمؤسسة جمع وتحليل المعطيات "طومسن رويترز" لاستطلاع رأي أكثر من 13 ألف مشارك. وأعلن محرر "التايمز" أن تغيير المنهجية أدى إلى تغييرات في مراتب الجامعات، وخروج بعضها من قائمة أفضل 500 جامعة في العالم. وتأرجحت مراتب جامعات عدة وفق تصنيف "التايمز" منذ إطلاقه عام 2004، وهذا سبب قسوة نقد مالكولم غرانت، رئيس "كلية لندن الجامعية" UCL. فجامعته التي تعتبر أكبر مكونات "جامعة لندن" وأقدمها، تأسست عام 1826، وحصيلتها حالياً 21 جائزة نوبل، اختلفت مرتبتها ما بين 4 في تصنيف "كيو إس" الذي كان يصدر حتى هذا العام مشتركاً مع "التايمز"، و21 في "تصنيف شنغهاي"، و22 في تصنيف "التايمز". وقال "غرانت" إن إحدى التصنيفات جعلت "جامعة الإسكندرية" في مصر تفوز بحجم تأثير بحوثها على جامعتي "هارفارد" و"ستانفورد"! ويرفض "غرانت" أصلاً فكرة تصنيف الجامعات، وينكر وجود تعريف متفق عليه للجامعة النموذجية؛ "هل هي كبيرة أم صغيرة؟ أفضل في البحث أم في التدريس؟ متخصصة بالعلوم والتكنولوجيا أم تركز على الإنسانيات؟ وهل تحقق دخلاً كبيراً عن بحوثها، أم لا؟ ويشكك "غرانت" باعتماد معطيات التدريس في المقارنة عالمياً، أو اعتبار عدد شهادات الدكتوراه التي تمنحها كل جامعة، أو نسبة عدد الطلاب إلى أعضاء الهيئة التدريسية، أو الدخل الذي يحققه كل أكاديمي. و"التصنيف" اختراع أميركي تهيمن عليه مجلة "يو إس نيوز آند وورلد ريبورت"، ويدر لها منذ إطلاقه عام 1983 أعلى الموارد، ويضمن لها نفوذاً أكبر ممّا للإدارات الأميركية في تحديد أولويات التعليم. عرفتُ ذلك خلال زيارتي قُبيل أحداث سبتمبر عام 2001 الى العالم اللبناني أمين أرناؤوط، أستاذ كلية الطب في جامعة هارفارد، وصادف ذلك يوم فوز "قسم الكِلى" في "مستشفى ماساشوسيتس" الذي يرأسه بالأولوية في دليل المجلة للخدمات الطبية. وعلمتُ آنذاك كيف يحدد تصنيف المجلة مكانة إدارات المعاهد وموازناتها، وفرصها في الحصول على الدعم والاستثمارات، وإقبال الطلبة عليها. ورغم الاعتراضات الواسعة، وامتناع معاهد عدة عن المشاركة في التصنيف، بينها جامعات كبرى مثل "ستانفورد"، لا يزال التصنيف مقياساً مؤثراً على حظوظ ومصائر القيادات والمعاهد في سوق العلوم التنافسية في أميركا. وتلاحظ الظاهرة نفسها على الصعيد العالمي، حيث اتسع نطاق استخدام "التصنيف" بسرعة فائقة في ظروف الأزمة المالية التي تهز أغنى الجامعات العالمية، وتلغي كليات وبرامج علمية بالكامل. ويُعقد في الأسبوعين المقبلين مؤتمران دوليان حول "التصنيف"؛ الأول تعقده في برلين "مجموعة خبراء التصنيف" التي أسسها "المركز الأوروبي للتعليم العالي" في اليونسكو عام 2004 بالمشاركة مع "معهد سياسات التعليم العالي" في واشنطن. وكانت المجموعة قد وضعت ما تُدعى "قواعد برلين لتصنيف معاهد التعليم العالي". وتحدد القواعد، وعددها 16 قاعدة، أهداف وأغراض التصنيف، وتصميم وقياس مؤشراته، وعملية جمع ومعالجة المعطيات، وعرض نتائج التصنيف. وتعقبه ندوة جامعة شنغهاي التي تناقش مواضيع "تصنيف وإنشاء جامعات الدرجة الأولى العالمية في عصر التدويل". وبقدر ما يتعلق الأمر بالسعودية، فالسؤال المهم ليس لماذا، بل كيف؟ فالمنطقة العربية استثمرت خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي أربعة تريليونات دولار في تكوين إجمالي رأس المال الثابت، إضافة إلى أكثر من تريليون دولار في الموارد البشرية. والأموال بهذا الحجم الهائل تسيح عندما تستريح. وقد استراحت الأموال العربية إلى عقود "المفتاح باليد" في تنفيذ مشاريع جاهزة للإنشاءات والمجمعات الصناعية الكبرى، وبلغ حاصل إجمالي رأس المال الثابت العربي مطلع القرن الحالي 600 مليار دولار فقط، بينما المُفترض أن يكون 8 تريليونات دولار، حسب الباحث أنطوان زحلان، المختص بشؤون العلوم والتكنولوجيا العربية. لقد أخفقت المُخيلة العربية في ابتكار طرق لتطوير الأنظمة والشبكات الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، وهي الهياكل الارتكازية للمعرفة، والتي يستحيل للمجتمع من دونها الانتفاع برأس المال المادي والبشري. هل المُخيلة السعودية في حجم نجاح رهانها خلال الخمس سنوات الأخيرة على مضاعفة عدد الجامعات مرتين، والتي أصبحت 24 جامعة حكومية، وثماني جامعات أهلية و21 كلية؟ وما استعدادها لاستثمار وتوظيف الرقم القياسي العالمي الذي سجلته في نسبة عدد المواطنين إلى المبتعثين، والبالغ عددهم حالياً مائة ألف طالب يدرسون في الخارج؟ وكيف تعمل ملايين الدولارات التي تنفقها "جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا" منذ افتتحت أبوابها العام الماضي على إنشاء شراكات ومراكز بحوث داخل أكبر الجامعات العالمية؟ وهل يتحقق خيال وقفية عشرة مليارات دولار في تحويل هذه الجامعة المختصة بالبحث العلمي إلى "بيت الحكمة" الذي أطلق أكبر نهضة علمية عربية وإسلامية في تاريخ العالم؟