بين يديّ كتاب مثير لهشام جعيط بعنوان "الفتنة... جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، ينقلك إلى أجواء الانتقال من نظام الخلافة الراشدة إلى ما يعتبره "بناء الاستبدادية والسلالية". والذي جعلني أغرق في هذا الكتاب، أقلِّبه يميناً وشمالاً، وكأنني أقرأ، كما سماها جعيط نفسه، "إلياذة العرب"، وأُتابع فصول "الثورة" التي أشعلها محمد صلى الله عليه وسلم في التاريخ، فتحرك شعوباً وأمماً من رقدة العدم وصعد بالأرواح إلى ذرى القمم. ليس ذلك ما أريد نقله للقارئ، بل الشعور الحزين عن جو الفتن التي غرقت فيها الأمة فانتقلت من وضع إلى آخر. وقد قلبت كتب الرواة لأجد حديثاً عجيباً مروياً عن حذيفة بن اليمان حول تبادل أدوار الشر والخير، في تسلسل ينتهي أخيراً بتراجيديا دعاة على أبواب جهنم يقذفون فيها من أجابهم إليها، وهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا! وما حرك عندي هذا الهاجس حول زمن تنتشر فيه الفتن، هو ما أسمعه من كلام متبادل هذه الأيام بين من يعتبرون أنفسهم ممثلي الشيعة ومن يعتبرون أنفسهم كذلك ممثلي السنة. فهل أصبح العالم العربي في وضع الجثة المتفسخة؟ إننا نعرف عن موت الفرد يقيناً ونراه كل يوم، لكن لا أحد يزعم أنه رأى موت أمةٍ مّا، إلا قراءةً في التاريخ! كنت في كندا حين سمعت للمرة الأولى ما يقوله بعض متطرفي الشيعة، وكانت لي مفاجأة أن أسمع مثل هذا الغلو في قضايا انتهت منذ أكثر من ألف سنة؟ حيث تبنى العقائد على معارك تاريخية. حقيقة كان من قبل يُنقل لي بعض تلك الأقوال، أما هذه المرة فسمعتها تماماً وصدمت بها جداً. لقد أحزنني ما سمعت، وتساءلت: لمصلحة من تُثار هذه القضايا التي دفع ثمنها قوم في يوم ضريبة فادحة من دم مهراق؟ وتذكرت كتاب "العواصم من القواصم" لمؤلف قديم لا يحضرني اسمه. ثم دفعت التفكير في اتجاه آخر أعلى درجة من مستوى الصراع المذهبي، فوق حلقة التصادم الداخلية، وهو: لماذا تثار هذه النزاعات في وقت ما على لسان رجل ما؟ إنها كما يصفها مالك بن نبي "لعبة الصراع الفكري"، ومن يحرك هذه الدمى حريص مثلاً على تقديم الملائكة ساعة في صورة أنثى، وساعة على شكل ذكر، وإثارة الصراع حول جنس الملائكة؛ ذكور هي أم إناث؟! وحالياً فإن الصراع حول عائشة رضي الله عنها، يجعلنا ندرك إحياء أجواء من الصراع مشحونة، وكأننا متوقفون في وقعة الجمل والنهروان وصفين، وكأن الزمن متوقف أيضاً! والله يقول: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون". مشكلة الصراع المذهبي أو الديني أو القومي، حين يقاد بالكلمات؛ وتثار قضايا قديمة بكلمات جديدة، أنه يجعلنا نتجمد في الزمن لا نملك خلاصاً منه أو تقدماً إلا في اتجاه التعقيد والوقوع في فخ الملابسات اللفظية، والمناحرات غير المجدية... بمعنى رؤية الحدث التاريخي بأدوات جديدة في وسط جديد من عدم التشنج بل الرؤية العلمية النقدية المدروسة. إذا أمكن تحقيق هذا الشرط في البحث فلربما فهمنا طرفاً من الصراع على نحو أقرب للموضوعية، وجعيط في كتابه "الفتنة" بذل الجهد مشكوراً في رؤية ظروف الصراع القديمة بنور جديد.