"إريك جفروا" باحث جامعي فرنسي مسلم، من أبرز المتخصصين في دراسات التصوف الإسلامي الذي لا يخفي الانتماء الشخصي إليه. أصدر "جفروا" مؤخرا كتاباً مثيراً للجدل والحوار بعنوان "الإسلام سيكون روحياً أو لن يكون". والعنوان مستوحى بجلاء من العبارة الشهيرة المنسوبة للأديب الفرنسي "أندريه مالرو"، وهي "أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً دينياً أو لن يكون". وإذا كنا قد ألفنا "جفروا" باحثاً دقيقاً في اختصاصه، الذي هو تاريخ التصوف الإسلامي واستعراض مدارسه وطرقه، إلا أنه في هذا الكتاب يتجاوز هذا المنحى الأكاديمي الوصفي، كما يتجاوز التجربة الباطنية الخاصة، ليقدم مشروعاً كاملًا ومتكاملاً لإحياء علوم الإسلام وتجديد مقاربة التدين من خلال نموذج "الاجتهاد الروحي"، الذي يقدمه بديلًا من الاجتهاد الفقهي المحدود، ويراه المسلك الملائم لحقبة ما بعد الحداثة الراهنة. ولهذا الغرض يوظف "جفروا" عدة ثقافية ومنهجية واسعة، تشمل التراث الصوفي العريق ككتابات ابن عربي (ولكن أيضاً بعض إشارات ابن تيمية الذي يعتبره صوفياً كاملاً) وأدبيات الإصلاحية الإسلامية الحديثة (محمد إقبال خصوصاً)، كما يرجع لأعمال المفكرين العرب والمسلمين التحديثيين (أركون وأبوزيد وسروش والجابري ...)، مع إحالات كثيفة للكتابات الفلسفية الغربية الراهنة. وليس من همنا عرض هذا الكتاب المهم الذي لا شك أنه سيثير جدلاً واسعاً، ولكن حسبنا الاكتفاء بطرح الإشكاليات الثلاث الرئيسية التي نعتقد أنه يطرحها بكثير من الطرافة والوضوح. أما الإشكالية الأولى فتتعلق بما أطلق عليه مفارقة "قلب القيم "في التجربة الإسلامية. أي كيف انحسرت الوعود الخصبة والثرية التي حملتها رسالة الإسلام وتحولت إلى عكسها في السياق التاريخي الإسلامي؟ من هذه الوعود قيم الحرية والمسؤولية وانفتاح الإسلام على الكوني والمختلف وإعلائه لحقوق الإنسان وحرية المرأة...مما يدخل في ما دعاه بالإنسانية الروحية الإسلامية التي تختلف عن النزعة الإنسانية الأوروبية الحديثة بكونها تضع الإنسان في مركز المشروع الرباني للخلق، حيث الإنسان مكرم، يبحث عن الاكتمال والكمال، وليس مركزاً للكون مهيمناً عليه كما تصورت الحداثة الغربية، فانتهت إلى مساوئ العرقية المركزية والعدمية المادية وتدمير الطبيعة. ورغم أن المبحث ليس بالجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، إلا أن جانب الطرافة في مقاربة "جفروا" يكمن في قلب المقاربة السائدة في الأدبيات الراهنة، بالقول إن مأزق الفكر الإسلامي الوسيط متأت في كونه عزف عن نموذج الإصلاح الصوفي الذي تبلور بقوة بعد سقوط بغداد والأندلس واختار بديلاً منه الاجتهاد الفقهي المحدود بالقياس التمثيلي المقيد بالأعراف الاجتماعية والثقافية للمجتمعات القبلية العربية. فالتصور السائد هو أن انحسار حركية الفلسفة (فشل المشروع الرشدي بلغة الجابري)، أو القضاء على العقلانية الاعتزالية هو سبب إخفاق المجتمعات المسلمة في المرور نحو عصر النهضة والحداثة، مما ترجمه الانزلاق نحو الطرقية الصوفية "المعطلة للعقل". يرفض "جفروا" بشدة هذه القراءة مبيناً أن التصوف الإسلامي قدم تصوراً عقلانياً أكثر صرامة ودقة من العقلانية الفلسفية والكلامية، يلائم التصورات الأبستمولوجية والتأويلية الأكثر حداثة. والعائق الذي حال دون استيعاب العقلانية الصوفية هو اختزال المفاهيم والتصورات الصوفية في جماليات الذوق وباطنية التجربة الروحية بدل النظر إليها كمنظومات فلسفية كاملة. ولا شك فرضية "جفروا" تستحق المناقشة العلمية الهادئة، بدل التسرع في تفنيدها، أما الإشكالية الثانية فتتعلق بإمكانية إخراج التصوف من قالبه الباطني لتطبيع وضعه المعرفي داخل الحقل النظري تأويلياً وأبستمولوجيا. فالفكرة التي يدافع عنها "جفروا"، هي أن التصوف ليس كما يظن عادة لغة رمزية شاعرية يحتكرها خاصة الخاصة، وإنما يتأسس على مجموعة من الأدوات النظرية والمنهجية، التي يمكن أن تصاغ بلغة مفهومة للجميع، بشرط الخروج عن حجب المنطق التعليلي المجرد الذي يختزل إليه عادة العقل. ومن الواضح أن "جفروا" يرجع في دعمه لأطروحته إلى الكتابات الفلسفية المعاصرة التي قوضت منذ "نتشه " و"هايدغر" المفهوم النسقي للفلسفة ومنطق الحضور والهوية، وأكدت تداخل العقلي باللاعقلي والشعري بالبرهاني والحدس بالفهم. من هذا المنظور يقف "جفروا" عند مسلكي "الإلهام" و"المكاشفة" ليبين أنهما منهجان معرفيان متكاملان طورهما الصوفية للوصول إلى الحقائق الروحية. ويتعلق الأمر بمنهجين مستخدمين اليوم في العلوم الدقيقة وفي الفلسفات التأويلية، ولا يجوز النظر إليهما كشطحات باطنية. ويرى "جفروا" أن الاجتهاد الروحي بالمقاييس الصوفية هو وحده المؤهل لإصلاح الإسلام وتجديده بدل الاكتفاء بالاجتهاد الفقهي المحدود. إنه يطرح مفهوماً جديداً للقراءة والتأويل يؤكد على أن النص لا ينفك يتنزل وان المدلول الإلهي لا ينال بالمطلق وإنما هي أحوال متقلبة تعكسها أفهام متغيرة مشروعة لإنسان أمين على النص بصفته إشارات ونداء إلهياً وليس مدونة جامدة الدلالة. ومن الواضح أن صاحبنا تأثر في هذا الطرح بميتافيزيقا الحركة لدى الفيلسوف الباكستاني المتصوف "محمد إقبال". أما الإشكال الثالث، فيتعلق بالمرور من الحداثة الفاقدة للروحية إلى ما بعد الحداثة المستعيدة للروحية. والواقع أن "جفروا" ليس أول من طرح هذا التصور، بل سبقه إليه بعض الفلاسفة والمفكرين لعل أبرزهم هو الفيلسوف الايطالي "جاني فاتيمو" الذي اعتبر أن انهيار الميتافيزيقا يدشن أفقاً جديداً للروحية بدل القضاء عليها. فإذا كانت الحداثة قامت على فكرة اليقين التجريبي، فإن عصر ما بعد الحداثة أنهى اليقينيات الوضعية والتحديدات الحتمية فاتحاً أفقاً جديداً للحدس الروحي. وإذا كانت الحداثة أعلنت مركزية الإنسان وحولته إلى إله مطلق، فإن ما بعد الحداثة أعلنت نهاية الإنسان، وفرضته على الوعي بتناهيه ومحدوديته حاملة إياه على إعادة صلته بالمطلق، كما أن العولمة وفرت للإنسان المعاصر سوقاً روحية رحبة ينهل منها لم تكن متاحة له. وحاصل الأمر، أن كتاب "جفروا" يحمل القارئ على مراجعة صارمة لكثير من المسلمات الراسخة، ويقدم مشروعاً طموحاً للإصلاح والتجديد من منطلقات صوفية مصاغة بأسلوب فلسفي رصين.