بعد الهزيمة التي مني بها في الانتخابات الأخيرة، لم يجد حزب "العمال" البريطاني نفسه خارج الحكم فحسب، وإنما أيضاً أمام فراغ في القيادة بعد استقالة رئيسه جوردون براون. وفي هذا الوقت، بدأ التنافس الداخلي على خلافة براون، فتقدم مرشحون أبرزهم الأخوان ديفيد وإد ميليباند، لينجلي غبار المعركة الداخلية عن نتائج انتخابات السبت الماضي، والتي وضعت إد على رأس قيادة حزب "العمال"، كأصغر زعيم له منذ سبعين عاماً... فمن هو الزعيم العمالي الجديد؟ وماهي الخلفيات التي أهلته للانتصار على شقيقه ديفيد؟ دخل ديفيد ميليباند السباق كمتصدر واضح منذ البداية، معتمداً على رصيده السياسي ومهاراته العالية؛ حيث عمل وزيراً للخارجية ثلاثة أعوام، وكان رئيساً لوحدة السياسة في مجلس الوزراء إبان حكومة توني بلير، وعضواً في المطبخ السياسي الوزاري الذي قدم مشروع «حزب العمال الجديد»، الذي أعاد تشكيل الحزب من جذوره، فنقله من حزب يأخذ بنظرية الصراع الطبقي، إلى حزب مؤيد للشركات والطبقة الوسطى، وهي التركيبة التي منحت بلير الفوز ثلاث مرات بمنصب رئيس الوزراء. لذلك فقد بدا ديفيد مندهشاً، رغم نفيه ذلك علناً، بل ممتعضاً إلى حد ما عندما أعلن أخوه إد ترشيح نفسه للمنصب الذي كان يعتبر على نطاق واسع مستحقاً لشقيقه الأكبر. وكشأن ديفيد، فإن أخاه إد الذي يصغره بخمس سنوات، ولد هو أيضاً في لندن، لكن في عام 1969، لأبوين يهوديين بولنديين، هما "ماريوت كوزاك" و"رالف ميليباند"، المفكر الماركسي المولود في بروكسل والذي وصل إلى بريطانيا في الأربعينيات على متن السفن الأخيرة التي غادرت بلجيكا قبل تقدم القوات النازية، وتوفي عام 1994 ودفن إلى جانب كارل ماركس في مقبرة "هاي غيت" في لندن. وفي شمال لندن، تردد الشقيقان على نفس المدرسة العمومية، ثم تخرجا من جامعتي أوكسفورد وهارفارد ومدرسة لندن للاقتصاد، وبنفس التخصص الدراسي (العلوم الاقتصادية والسياسية)، وانضما أيضاً إلى حزب "العمال" وارتقيا درجات المسؤولية فيه بسرعة، لكن إد انفرد بتجربته الإعلامية حيث عمل ناقداً للأفلام في إذاعة "أل بي سي"، وشارك في عدد من برامجها الشهيرة، ثم عمل مذيعاً ومنتجاً تلفزيونياً لبعض الوقت، قبل أن يصبح باحثاً ومحرر خطابات لدى السياسية العمالية "هاريت هارمان". ولعل الخطوة النوعية في حياته كانت انضمامه، في عام 1993، كباحث ومحرر خطابات، إلى مكتب براون الذي عينه مستشاراً خاصاً له في عام 1997. ثم بعد عودته من جامعة هارفارد عام 2004، سّلمه رئاسة لجنة المستشارين الاقتصاديين في الخزانة الملكية البريطانية. في ذلك الوقت كان صراع صامت يدور بين وزير الخزانة براون ورئيس الوزراء بلير الذي استمر في منصبه أكثر مما يسمح به اتفاق قيل إنه كان يلزمه بالتخلي عن رئاسة الحزب والحكومة في عام 2002 لبراون الذي كان المرشح الأصلي لخلافة جون سميث في قيادة الحزب عام 1994 قبل أن يتنازل عنها لصالح بلير. وكان إد أحد أعضاء معسكر براون، لذلك دعم ترشحيه في انتخابات مارس 2005 على قوائم الحزب عن دائرة "دونكاستر الشمالية"، وأدى له زيارة دعم وتشجيع قبل أن يفوز أخيراً بمقعد الدائرة. وما أن تولى براون رئاسة الوزراء خلفاً لبلير، في يونيو 2007، حتى عين إد وزيراً بلا وزارة في أول حكومة يشكلها، ثم عينه في أكتوبر 2008 على رأس وزارة جديدة للطاقة والمياه والتغير المناخي، بينما أسند إلى شقيقه ديفيد وزارة الشؤون الخارجية، فأصبحا أول أخوين، منذ عام 1938، يتوليان حقيبتين بنفس الحكومة في بريطانيا! ورغم وجود ديفيد في حكومة براون، فقد ظل يحسب على تيار بلير، إذ كان مستشاره السياسي، وكان منتمياً مثله إلى "واقعية" اليمين الليبرالي. فيما يعرف عن إد أنه أكثر انتماءً إلى اليسار وإلى تقاليد "حزب العمال القديم"، وأنه الصوت الأعلى في نقده لميراث بلير. وهكذا، فكما دار الصراع بين بلير وبراون، دار أيضاً بين شقيقين كان أحدهما مستشاراً لبلير والآخر لبراون، لكن دون أن تنشأ عن "الصراع" عداوة شخصية بين الشقيقين، كما حدث بين بلير وبراون وأدى إلى هزيمة الحزب، بل بدأ الأخوان ميليباند منذ مدة بأخذ مسافة من الزعيمين العماليين السابقين؛ فبعد خسارة الحزب انتخابات العام الحالي، بادر إد إلى تقديم استقالته من الحكومة ولم ينتظر خطاب الاستقالة الجماعية الذي كان يعده براون. وقبل ذلك، خلال الحملة الانتخابية، بدا أكثر نأياً بنفسه عن سياسات براون، فاستطاع نيل التجديد له في عضوية البرلمان وإن بأصوات أقل مما حصل عليه في انتخابات عام 2005. هذا التباين بين وجهتي نظر، إحداهما اجتماعية ديمقراطية والأخرى براجماتية، هو مما يفسر انقلاب ميزان المنافسة بين الأخوين ميليباند لصالح إد، الذي استطاع أخيراً نيل ثقة النقابات العمالية، وهي واحدة من ثلاث هيئات انتخابية تمثل أعضاء الحزب الـ160 ألفاً، وتقرر نتيجة الانتخابات الداخلية، وذلك باعتبار انتمائه المعلن إلى يسار الحزب. كما حاز أيضاً على ثقة المنظمات البيئية التي حيّت قراراً كان قد اتخذه بعد أسبوعين على تعيينه وزيراً للطاقة والمياه والتغير المناخي، حيث أعلن سياسة جديدة ترمي إلى خفض الانبعاثات الغازية بنسبة 80 في المئة بحلول عام 2050 بدلاً من النسبة المعلنة سابقاً وهي 60 في المئة. والآن بعد أن أصبح إد رئيساً لـ"العمال"، فإن أمامه طريقاً طويلاً وشاقاً للعودة بالحزب إلى "10 داونينج ستريت". وتبقى أولى المهمات في هذا الخصوص إعادة لملمة صفوف الحزب لتخطي خلافاته الداخلية، وهو هدف لا يبدو يسيراً لزعيم شاب يفتقر إلى الخبرة، وإن أوتي الوسامة والتعليم الجيد والقامة المديدة. ثم إن عودة "العمال القديم" تبقى حلماً أكثر مما هي هدف واقعي له قابلية التحقق! محمد ولد المنى