لعل أحد الأسباب التي تُساق للتدليل على الفشل المحتوم للمفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين مرتبط باستحالة تطبيق أي اتفاق متوقع على قطاع غزة طالما أن "حماس" مُستثناة من ذلك الاتفاق. ولكن هذا السبب نفسه قد يكون هو المُحفز على تحقيق "نجاح ما" في هذه المفاوضات، بحيث تصل إلى صيغة يتم من خلالها التخلص من قطاع غزة و"حماس" معاً. وقبل التفصيل في ذلك ينبغي القول إن التشاؤم العام الذي يحيط بالمفاوضات الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين يقوم على أسباب أخرى، وهي مبررة، كما أن التوقعات الغالبة بالفشل تستند إلى عناصر واقعية عديدة. ونعرف أن هدفاً أساسيّاً وراء هذه المفاوضات يتمثل في توفير مناخ سياسي وإقليمي ملائم. ونعرف أيضاً أن أحد الاختلالات البنيوية الكبيرة في المفاوضات الجارية هو ضعف المفاوض الفلسطيني وخروج قطاع غزة من معادلة الشرعية والتمثيل تلك، وبالتالي صعوبة أو استحالة تطبيق أي اتفاق يمكن الوصول إليه على القطاع. ومع ذلك ثمة احتمال جدي بتحقيق "نجاح ما"، وهو نجاح معرّف بكونه كذلك تبعاً للرؤية الإسرائيلية، وللرغبة الأميركية الجامحة بالوصول إلى إنجاز ما في هذه المنطقة. وذلك لأن الفشل الأميركي في العراق وأفغانستان خلق تعطشاً كبيراً للوصول إلى نجاح في الشرق الأوسط. وإذا كانت السياسة الأميركية لم تستطع فرض إرادتها على خصومها وعلى أطراف امتلكت أوراق قوة في تلك الحالات، فإن الطرف الفلسطيني هنا هو الأضعف، والذي يمكن مواصلة الضغط عليه، كما لاحظنا ولا زلنا نلاحظ. وبالتوازي مع ذلك لن يضير إسرائيل ونتنياهو الوصول إلى ذلك "حل ما" إن كان يلبي الشروط الإسرائيلية الأساسية. ولكن ما هي ملامح هذا الحل المتوقع، خاصة فيما يتعلق بموقع قطاع غزة منه؟ في الشكل العام لن يخرج أي حل متوقع من هذه المفاوضات عن حدود "شرعنة" وتأكيد الوضع القائم حاليّاً، بعناصره التي نشهدها على الأرض وبالانقسام الذي يشكل أحد جوانبه الجوهرية. والشيء الأساسي الذي قد يتم التوصل إليه هو جزئياً أو كليّاً الحدود والأمن، وذلك بهدف أساسي هو فتح تسليم المعابر الحدودية مع الأردن (وليس الحدود) إلى الفلسطينيين، لأن ذلك سيعطي الانطباع بأن الكيان الفلسطيني الناشئ في الضفة الغربية يحظى بسيادة ما. والنظام والتنسيق الأمني المتحققان في الضفة الغربية سيكونان من أركان الحل، أي استمرار وتأكيد ما هو قائم، وتواصل بناء مؤسسات الدولة، وهكذا. أما بقية القضايا الجوهرية للصراع، كالقدس، واللاجئين، والمستوطنات، والمياه، فستستمر المفاوضات بشأنها إلى آجال غير محددة. وتبقى المعضلة المتمثلة في قطاع غزة وسيطرة "حماس" عليه. وهنا فإن الحل سيتحدث عن الضفة والقطاع معاً، لكن كرة النار أو مسؤولية تطبيق الحل ستُلقى على الجانب الفلسطيني. وهنا بطبيعة الحال والتوقع، وفي ظل الانقسام الفلسطيني، سيكون فرض أي حل على القطاع و"حماس" أمراً خارج الحسابات كلها. ونتيجة ذلك أن قطاع غزة سينتهي إلى حالة كيانية لا تعريف لها في القانون الدولي، ولكن سيتم توفير شريان الحياة لها، وهي في هذا الجانب ستكون شبيهة بحالة قبرص التركية، المُعلنة منذ عام 1985. ففي تلك الحالة هناك كيان أو دويلة لها حكومة وميزانية ووزارات وتدير السكان كما يحدث في أية دولة. ولكن ليست هناك سيادة أو اعتراف دولي أو تمثيل خارجي. وشؤون السكان واحتياجاتهم متحققة من خلال الحكومة المحلية. وفي حالة قطاع غزة تتوفر حكومة ووزارات الآن ونظام أمني ورعاية لشؤون السكان، وليست هناك حاجة لمنح الوضع القائم أي تمثيل قانوني أو سيادي، ويمكن التعايش معه إلى أجل غير مسمى. ومن جهة إسرائيل هناك ثلاثة عناصر أساسية في هذا الحل تشجع على القبول. أولها تحقيق الأمن على "الجبهة الجنوبية" من خلال الردع الذي ترسخ بعد الحرب الأخيرة وجوهره توجيه ضربات عسكرية قاسية لـ"حماس" والقطاع ردّاً على أية خروقات أمنية وإطلاق صواريخ. ونلاحظ خلال السنتين الماضيتين أن نظرية الردع هذه، في ظل خشية "حماس" على سيطرتها على القطاع ورغبتها في استمرار الهدوء والتقاط الأنفاس، تحقق الأمن لإسرائيل كما لم تحققه أية نظرية أخرى. والعنصر الثاني الأساسي هو التخلص الكلي من أية مسؤولية تجاه القطاع، كالتزويد بالطاقة، والاحتياجات الاقتصادية، ومراقبة الواردات، وسوى ذلك. وهذا كله سيتم التخلص منه دفعة واحدة عبر فتح ممر بحري للقطاع على العالم، يعفي إسرائيل تدريجيّاً من أية علاقة ومسؤولية لها عن القطاع، وبحيث "تتحرر" صورتها في العالم عما يجري فيه -سوى ما يتعلق بالأمن والردع. وبطبيعة الحال سيخضع أي تواصل بحري مباشر بين القطاع والعالم لرقابة أمنية مشددة دولية (من قبل الاتحاد الأوروبي أو حلف "الناتو") في عرض البحر ومن دون تنسيق مع "حماس" حاكمة القطاع. وعندما أعلن القبارصة الأتراك عن "استقلال" دولتهم سنة 1985، بعد سنوات من اجتياح الجيش التركي لشمال الجزيرة سنة 1975، لم يتصور أحد أن يستمر الكيان الجديد الذي رفضت أن تعترف به أي دولة من دول العالم غير تركيا. ولكن منطق السياسة المُدهش وجنونها أحياناً لا يخضعان لأي تقدير أو توقع عقلاني. فالأحداث تصير هي من يقود السياسيين، وليس العكس. وفي حالة قطاع غزة و"حماس" والانقسام الذي أتم ثلاث سنوات من عمره (المديد) لم يخطر ببال أحد أن يتواصل ذلك الانقسام إلى الآن. وربما سينكر كثيرون توقع أن يستمر إلى أجل غير مسمى. ولكن ذلك ما سيحدث في غالب الظن، على الضد من كل التمنيات والرغبات والمرارات.