مثله مثل بقية أعضاء وأجهزة الجسم، يتعرض المخ لحزمة متنوعة من الأمراض والعلل بعضها عضوي أو تشريحي، مثل الأمراض السرطانية أو نزيف الشرايين، وبعضها الآخر فسيولوجي أو وظيفي يؤثر على وظائف المخ دون أن يكون هناك اختلال واضح في التركيب التشريحي. وعلى رغم بساطة هذا التقسيم، إلا أنه من الصعب في الكثير من الأحيان تصنيف الأمراض التي تصيب المخ تحت أحد هذين القسمين، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالاختلالات الوظيفية غير معروفة السبب. وهو ما ينطبق إلى حد كبير على الأمراض أو الاضطرابات العقلية التي يمكن أن تعرف على أنها نمط من الاختلالات النفسية أو السلوكية، لا يندرج تحت التغيرات المرافقة لمراحل النمو الجسدي والنفسي التي يمر بها الإنسان، ولا ضمن الاختلافات والفروق بين الشعوب والثقافات المختلفة. والحال أن فضفاضية هذا التعريف تظهر مدى الصعوبة التي يواجهها أفراد المجتمع الطبي في تحديد ماهية الأمراض العقلية، وتصنيفها، وبالتالي تحديد مدى انتشارها عبر الثقافات المختلفة. وتشير بعض الدراسات إلى أن الاضطرابات العقلية تعتبر من أكثر أنواع الأمراض انتشاراً على الإطلاق، حيث يقدر أن واحداً من كل ثلاثة من السكان في غالبية الدول، يشتكي من أعراض نوع واحد على الأقل من أنواع الاضطرابات العقلية خلال رحلة حياته، وهي نسبة تتفاوت بين الدول والمناطق المختلفة، لتصل أحياناً إلى 46 في المئة -نصف السكان تقريباً- في دولة مثل الولايات المتحدة، ولا يختلف الوضع كثيراً في بريطانيا حيث يقدر أن حوالي 17 مليون بريطاني يعانون من مشاكل تتعلق بالصحة العقلية والنفسية. ولذا من المنظور الدولي، وحسب منظمة الصحة العالمية، يوجد حاليّاً أكثر من 450 مليون مصاب باضطراب عقلي، بالإضافة إلى عدد أكبر من ذلك بكثير ممن يعانون من مشاكل عقلية أو نفسية. وتعتبر اضطرابات القلق (Anxiety Disorders) أكثر الاضطرابات العقلية انتشاراً على الإطلاق، تليها في ذلك اضطرابات المزاج (Mood Disorders). وعلى رغم النسبة الكبيرة التي تشير إليها التقديرات الحالية، إلا أن البعض يعتقدون أنها أقل من الواقع، نتيجة أخطاء التشخيص وخصوصاً في الدول النامية التي كثيراً ما تفتقد أبسط أشكال الرعاية الصحية المختصة بالأمراض العقلية والنفسية، ونتيجة تجنب كثير من المصابين لطلب المساعدة الطبية بسبب النظرة السلبية التي لا زال يوصم بها المرضى النفسيون والعقليون، بما في ذلك بين شعوب الدول المتقدمة والغنية. وإذا ما وضعنا هذه العوامل في الاعتبار، فربما يصل حينها معدل الإصابة بأحد الاضطرابات العقلية أو النفسية خلال مرحلة ما من رحلة الحياة، إلى ما بين 65 في المئة إلى 85 في المئة، حسب بعض التقديرات. ومن المعروف أن الصحة العقلية، مثلها في ذلك مثل الصحة البدنية، تتأثر بعوامل وظروف متعددة، اجتماعية، واقتصادية، وبيولوجية، ونفسية، تشارك جميعها في تحديد الحالة الصحية العقلية والنفسية للشخص، وخلوه من الأمراض والاضطرابات أو إصابته بها. فالعوامل البيولوجية مثلاً، وخصوصاً الوراثية منها، أو تلك المسببة لاختلال في التوازن الكيميائي داخل المخ، بالإضافة إلى الصفات النفسية والشخصية للمرء، تلعب جميعها دوراً في احتمالات الإصابة، وفي نوع الاضطراب الذي يمكن أن يصاب به الشخص. كما أن التعرض الدائم لضغوط اقتصادية أو اجتماعية، يعتبر من عوامل الخطر التي تحدد الحالة الصحية النفسية، ليس للشخص فقط، وإنما للمجتمع برمته، وهو ما يتضح في أجلى صورة من خلال العلاقة بين مؤشرات الفقر، ومستويات التعليم، وبين الحالة الصحية العقلية للأفراد والمجتمعات. ويرتبط تدهور الصحة النفسية أيضاً، بمعدل التغيرات الاجتماعية التي يتعرض لها الفرد والمجتمع ككل، وبظروف العمل الضاغطة وخصوصاً تلك المسببة للتوتر المزمن، وبمدى العزلة الاجتماعية، ونمط الحياة غير الصحي، والخوف من التعرض للعنف والإيذاء البدني، وتدهور الحالة الصحية البدنية، سواء من جراء أمراض حادة أو مزمنة. وبخلاف معدلات الإصابة المرتفعة تتفاقم وطأة وتأثير الاضطرابات العقلية والنفسية على المصابين بها، وعلى المجتمع ككل، نتيجة النظرة السلبية التي لا زالت تحيط بهذا النوع من الأمراض. فعلى رغم أن العديد من الأمراض بما في ذلك بعض الأمراض المعدية والأمراض الجنسية، قد شهدت تحولاً تدريجيّاً في نظرة العامة تجاهها، لا زالت الأمراض العقلية تتعرض للكثير من الإهمال وسوء الفهم، ويعاني المصابون بها قدراً لا يستهان به من التمييز السلبي والإجحاف، يدفع كثيرين منهم للمعاناة في صمت، خوفاً من العواقب الاجتماعية والاقتصادية التي قد تترتب على ذيوع مرضهم. ففي الوقت الذي نتعاطف فيه مع مرضى بأمراض مثل السكري أو السرطان ونساندهم، تفضل الغالبية منا عدم التعامل مع المصابين بأمراض عقلية، وتجنب توظيفهم، والرفض القاطع للزواج منهم. ولا يقتصر سوء الفهم هذا على العامة فقط، بل يمتد أيضاً إلى الكثير من أفراد المجتمع الطبي، بسبب عدم إدراكهم الكامل لمفهوم الصحة العقلية، الذي لا يعني مجرد الخلو من الأمراض العقلية، بل يشمل عدة مكونات للحالة الصحية النفسية السوية، وهي تلك التي تتيح للشخص استغلال جميع إمكانياته، وتمكنه من التعامل مع الضغوط النفسية التي تفرضها الحياة بشكل طبيعي، والعمل والإنتاج بشكل مثمر وبناء، مما يتيح له القدرة على المساهمة في رفاهية وبناء مجتمعه.