اتسمت العلاقات بين أوروبا الغربية ومجموعة المستعمرات التي شكلت ما أصبح يعرف لاحقاً بالولايات المتحدة الأميركية، بالتعقيد منذ بداياتها. ففي ذلك الوقت لم تكن المستوطنات الأميركية الشمالية سوى امتداد لمناطق نفوذ القوى الأوروبية، وهو ما جرها إلى حلبة نزاعات القوى النافذة في حينه. وسرعان ما وجدت المستوطنات الأميركية الجديدة نفسها جزءاً لا يتجزأ من سلسلة حروب الملك وليام الثالث، والملكة آن، ثم الحروب الفرنسية والهندية. وفيما بعد حدثت ثورة المستعمرات الأميركية الحديثة ضد إنجلترا. وبعد ثلاثة عقود لاحقة، منح تجدد اندلاع الحرب ضد إنجلترا الولايات المتحدة الأميركية الجديدة فرصة لإعادة بناء قبة برلمانها الوطني الذي أحرق من قبل، فضلاً عن إعادة إعمار مدينة واشنطن. واليوم أيضاً تتسم علاقات واشنطن بأوروبا بتعقيدات كبيرة، جراء الاتساع التدريجي لفجوة الثقة بين جانبي الأطلسي. وتعود هذه الفجوة إلى تمسك واشنطن بافتراضها القائل إن على الاتحاد الأوروبي أن يبقى مجرد كيان تابع للنفوذ الأميركي. ورغم تمسك واشنطن بذلك الافتراض، فها هي تتصاعد ردة فعل حلفاء أميركا من الأوروبيين على الحروب الإمبريالية التي تشنها الولايات المتحدة. ومن جانبها، ترى واشنطن في ذلك تفككاً للمجتمعات الأوروبية التي لم تحقق نموها ورخاءها إلا بفضل الدعم الذي قدمته هي لها. وهذا ما لاحظه الأكاديمي الأميركي تشارلس كوبشان في مقال نشرته "واشنطن بوست" مؤخراً، قال فيه إن الأوروبيين يتصرفون على نحو غير أوروبي، وتحدث عن "مشروع أوروبي لسكرات الموت الأخيرة"، كتلميح إلى إعادة تأميم أوروبا لمشهدها السياسي. وهو مشروع تسعى فيه كل دولة أوروبية إلى استعادة سيادتها الوطنية التي كانت قد منحتها طواعيةً لصالح الوحدة الأوروبية الجامعة. لكن التغير الأكثر أهمية اليوم هو ما استجد على علاقات أوروبا الخارجية. فالملاحظ أن علاقات أوروبا الغربية بالولايات المتحدة مستمرة في ضعفها وفتورها. فسرعان ما مضت سحابة هوس الإعجاب المفرط بأوباما، بينما عادت لجنة نوبل للسلام إلى مستنقع الأوهام الذي منحت منه الرئيس الأميركي جائزتها! واليوم تبدو أميركا في عيون الجيل الحالي من الأوروبيين على حقيقتها، خلافاً لما كانت تبدو عليه في عيون الأجيال السابقة من الأوروبيين. فمنذ الحرب العالمية الثانية، ولاسيما تحت تأثير الانتصارين الكبيرين اللذين تحققا في الحرب العالمية والحرب الباردة التي تلتها، واصل الساسة الأوروبيون -خاصة في بريطانيا- الترويج للرابط التاريخي بين ساحلي الأطلسي. بيد أن ساركوزي نفسه، وهو أكثر القادة الأوروبيين حماساً لهذه الفكرة، بدأ التراجع عنها الآن. ومن جانبه اعتبر بلير أن موجة الحماس للوحدة الأطلسية كانت عالية جداً في تلك اللحظات الحالكة من تاريخ بريطانيا في عام 1941، لإدراك البريطانيين حينها حقيقة أن أميركا كانت هناك إلى جانبهم في تلك الساعة المشؤومة. والحقيقة، أن أميركا لم تكن هناك إلى جانب البريطانيين -كما اعتقد بلير- لأنها لم تدخل إلى حلبة الحرب إلا بعد أن أعلن هتلر الحرب على الولايات المتحدة بعد مرور 18 شهراً على اندلاع الحرب. لكن كثيراً ما يحلو للأميركيين الاعتقاد بأنهم كانوا "إلى جانب الأوروبيين" خلال الحربين العالميتين، وأنهم كانوا حماةً للديمقراطية والذود عنها، في حين أن بلادهم كانت توفر المؤن والعتاد الحربيين لحلفائها الأوروبيين، وخاصة بريطانيا التي أرغمت على التنازل لأميركا عن بعض قواعدها العسكرية وامتيازاتها الاستعمارية، إضافة إلى ما كانت تسدده من أموال مقابل تلك المؤن والعتاد الحربيين. بعبارة أخرى لم يكن وقوف أميركا إلى جانب الأوروبيين مجانياً. ولا يزال الأوروبيون يتحملون مسؤولية تسديد كامل فواتير الحرب التي دعمتهم فيها واشنطن، حتى الحربين الحاليتين في العراق وأفغانستان. ولعل الحرب التي تخوضها واشنطن ضد الإسلاميين الراديكاليين هي أكثر ما يدق أسفين الخلاف في جسد التحالف الأطلسي. لكن لايبدو أن كثيراً من الأميركيين يدركون هذه الحقيقة. فحتى المحلل السياسي الأكاديمي كوبشان يتساءل اليوم عن جدوى استمرار التحالف الأطلسي، طالما أن الأوروبيين لا يبدون حماساً أو عزماً لتقديم التضحيات من أجل تحقيق هدف عام أطلسي مشترك، مثل مكافحة الإرهاب. ويواصل كوبشان تساؤله عن جدوى التحالف مع دول أوروبية مبعثرة، ذات قوات عسكرية صغيرة لا وجود لأدنى نفوذ جيو-سياسي لها؟ ويستنتج أن هذا الواقع يحرم الولايات المتحدة من شريك فاعل وعازم على تحمّل عبء المسؤوليات الأمنية الدولية. غير أن الذي لا يدركه كوبشان هو أن الأوروبيين ينظرون اليوم إلى سياسات واشنطن الخارجية، على أنها سياسات حربية، وإلى حروبها على أنها اختيارية لم تملها الضرورة، ولم يعد الأوروبيون يؤمنون بها. وليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيزيس"