كشفت كارثة الفيضانات الأخيرة في باكستان، للعالم عن العديد من الأمور، من بينها عدم مقدرة الحكومات الباكستانية المتعاقبة على إقامة بنية تحتية تستطيع مواجهة الكوارث الطبيعية المتكررة أو-على الأقل- التعاطي مع تداعيات الكوارث بكفاءة. وثانيها التردد في إغداق المساعدات على إسلام آباد بالقدر الكافي. والأهم من كل هذا أن الفيضانات تسببت في ارتفاع أسهم المؤسسة العسكرية على حساب المؤسسة المدنية. حيث برز قائد الجيش الجنرال "أشفق برويز كياني" كشخصية موثوق بها. فهذا وحده ملك قلوب المنكوبين والمشردين حينما أخذ زمام المبادرة واستقل مروحية عسكرية ليطير بها فوق المناطق المنكوبة مواسياً مواطنيه ومعايناً حجم خسائرهم، الأمر الذي عزّز صورته على حساب صورة الرئيس المدني "آصف علي زرداري" الذي كان في ذلك التوقيت يمتطي مروحية أيضاً، لكن من أجل الانتقال إلى قصره الفخم في فرنسا. وهو الحدث الذي أثار ضده موجة من السخط الشعبي. ولعل ما ضاعف من السخط ضده في الصحافة المحلية، هو التبرير الذي جاء من مصادر حزبه الحاكم، والذي قيل فيه إن قطع الرئيس لجولته الرسمية لن يغير شيئاً من حجم المأساة وتداعياتها. وهكذا تسببت الفيضانات في عودة الوهج إلى المؤسسة العسكرية التي كانت إلى وقت قريب مادة لهجمات شرسة، بل التي اضطر قائدها السابق الجنرال "برويز مشرف" للتخلي عن السلطة في 2007 تحت وقع مطالبات شعبية بعودة العسكر إلى ثكناتهم وترك السلطة للمدنيين، ناهيك عن الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها هؤلاء بسبب ما قيل عن تواطئهم مع القوات الغربية العاملة في أفغانستان في حرب الأخيرة ضد المناطق القبلية من تلك التي تأوي أنصار "القاعدة" و"طالبان". ولا يحتاج المراقب إلى ذكاء للقول إن جنرالات الجيش يشعرون بسعادة غامرة لأنهم استطاعوا مجدداً الظهور أمام الجماهير بأنهم الأقدر والأسرع على التعاطي مع الشأن الداخلي، خصوصاً أن أصواتاً ارتفعت من وسط ركام الفيضانات تدعوهم إلى استلام السلطة بدلًا من الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطياً، لكن المنشغلة بمصالحها الخاصة. وفي رأي بعض المراقبين أن عودة العسكر إلى الحكم ليست سوى مسألة وقت. وفي هذه الحالة سوف يتولى "كياني" بالطبع مقاليد السلطة كسادس زعيم عسكري يحكم البلاد منذ استقلالها، من بعد إسكندر ميرزا، وأيوب خان، ويحيى خان" وضياء الحق، وبرويز مشرف، بالترتيب. وسوف تكون سياساته الداخلية والخارجية قريبة من تلك التي انتهجها "مشرف" الذي فضـّل كياني على آخرين أقدم في التراتبية العسكرية ليحل محله، يوم أن اضطر للتخلي عن قيادة الجيش. لكن الاختلاف الوحيد ربما سينحصر في تفادي "كياني" التشبه علنا بسلفه الذي امتلك جرأة الإعلان صراحة عن طموحه في إقامة نظام علماني في باكستان يحرسه الجيش، على شاكلة النظام العلماني في تركيا التي عاش فيها "مشرف"، وتشرب من قيمها في سنوات صباه، أي يوم كان برفقة والده، الملحق العسكري في السفارة الباكستانية في أنقرة وقتذاك. قليلة هي المعلومات المتداولة عن "كياني. فـالأخير الذي يبلغ من العمر الآن 58 عاماً، ويقود واحداً من أكبر جيوش العالم الإسلامي من حيث العديد، والجاهزية القتالية، والأسلحة غير التقليدية، تدرج السلالم سريعاً، فمن ضابط من ضباط الصف الثاني في قيادة الأركان إلى رئيس لجهاز الاستخبارات العسكرية النافذ إلى قائد عام للقوات المسلحة بأفرعها الثلاثة. ويصف الجنرال "طلال مسعود"، الذي خدم طويلاً في الجيش الباكستاني قبل أن يصير واحداً من كبار المحللين العسكريين، "كياني" بأنه أفضل رئيس أركان مرّ على باكستان خلال السنوات الـ 63 الماضية، مضيفاً بأنه من القادة ذوي الشخصية القوية والذكاء الحاد والمقدرة الفذة على تحليل ودراسة المشكلات الداخلية والعالمية بعمق واقتراح الحلول المناسبة لها بطريقة تميزه عن كل أسلافه، "مما سيجعله نجماً مضيئاً في تاريخ باكستان لو دانت له السلطة". والحقيقة أن الجميع مـُجمع على أن "كياني" يحظى بسمعة واحترام كبيرين كجندي أثبت دوماً إخلاصه لوطنه وشعبه، وكضابط أثبت ألمعيته في كل الدورات التي تلقاها في أرقى المعاهد العسكرية الأميركية. هذا فضلاً عما هو معروف عنه من إنجازات منذ تسلمه قيادة الجيش في نوفمبر 2007 ، حيث عمل مذاك على إعادة تأهيل العناصر العسكرية، وتحديث هياكل الجيش، وإعادة الانضباط والمناقبية إليه، وتطهير جهاز المخابرات من المتعاطفين مع الجماعات المتطرفة، وذلك من أجل مواجهة الأعباء الجديدة التي فرضتها حركات التمرد والميليشيات الإرهابية وأحداث العنف الطائفية بكفاءة. وربما كانت تلك الإنجازات، هي التي شفعت له لدى رئيس الوزراء "يوسف رضا جيلاني"، مما جعل الأخير يمدد فترة خدمته بصفة استثنائية حتى 2013. والحال أن باكستان المأزومة منذ ميلادها قد تكون قريباً على موعد مع مشهد مشابه لما حدث في 1990 حينما انقلب "مشرف" على رؤسائه المدنيين بحجة فسادهم وتجاهلهم المصلحة الوطنية العليا. ولا حاجة لنا هنا إلى تكرار ما نشرته الصحافة الباكستانية من تقارير عن تهم تتعلق بفساد السلطة الحالية التي قد تصطدم بعض قياداتها قريبا بالسلطة القضائية على خلفية محاولة الأخيرة تحريك دعاوى ضدها بالفساد والمحسوبية خلال العقدين الماضيين. وبالمثل فلا حاجة لنا للقول بأن المجتمع الدولي الذي سارع إلى مد يد العون لها في كارثتها الأخيرة، ما كان ليتردد أو يبخل عليها بشيء لولا خشيته وخوفه من عدم توزيع المساعدات بشفافية وعدالة. والجزئية الأخيرة اعترف بها مندوب باكستان لدى الأمم المتحدة "عبدالله هارون" في مقابلة مع تلفزيون "بي. بي. سي"، وإنْ عـَمد إلى تبرير التمييز في توزيع المساعدات بصعوبة إيصالها إلى كل مكان بسبب صعوبات لوجستية.