يختصر مضمون الخطاب السياسي في لبنان بالتحذير من: الفتنة أو الانقلاب، أو حتى: الفتنة والانقلاب معاً! تارة يأخذ طابع الاتهام من فريق لفريق آخر. وطوراً يأتي في سياق خلاصة التقييم للواقع السياسي في البلد. لكن في كل الحالات لا يسمع اللبنانيون إلا هذا الخطاب. فهل تمعنوا في أبعاده؟ بل، هل فكر السياسيون والقادة، لا سيما الذين يتهمون أو يُتّهمون فيردّون في هذه الأبعاد؟ ماذا فعلوا؟ ماذا يفعلون؟ ماذا فعلنا جميعاً؟ ماذا يجب أن نفعل؟ إذا كانت فتنة فهذه كارثة، وإذا كان انقلاب فهي كارثة، وإذا كانت فتنة وانقلاب فهي كارثة الكوارث. يعني في كل الحالات نحن ذاهبون إلى كارثة – إلى حريق – إلى دمار – إلى خراب – إلى أحقاد وغرائز وانقسامات. والنهاية كالعادة تسوية، يكتشف فيها الجميع، إلاّ المكابرون، أنهم لم يحققوا شيئاً يستحق كل ذلك، بل كانوا كلهم وكل اللبنانيين خاسرين! الفتنة المذهبية كما تظهر وتلوح ملامحها ويحذّر منها كثيرون هي نقيض للوحدة الإسلامية، أو الوحدة الوطنية وهما وحدتان متلازمتان... وهي أخطر أنواع الفتن ويصعب وقفها مع الزمن. مثل هذه الفتنة هي ولاّدة فتن مستمرة بطبيعتها وطبيعة خلفيتها فكيف إذا كنا نرى حالات غريبة عجيبة في بيئتنا الإسلامية، تنحو نحو كل أشكال التطرف والتكفير والتدمير وتبيح لنفسها كل شيء باسم الدين والله؟ الفتنة هذه هي تدمير لإنجاز الانتصار في وجه إسرائيل، الذي كان ولا يزال الواجب يدعونا إلى سلوك درب تثميره لا السقوط في مخطط إفراغه من نتائجه وتدميره. الفتنة هذه هي انقلاب على الأمن والاستقرار وتعميم للفوضى وتعميق للمشاعر المذهبية أكثر وفتح للأبواب أمام كل أشكال الصراع بين اللبنانيين عموماً والمسلمين خصوصاً. الفتنة هي انقلاب على فكرة الدولة الحامية لنا جميعاً والضامنة لمصالحنا، وعلى المؤسسات المسيّرة لشؤوننا رغم ما يعتريها من اهتراء وتراجع وفساد وفوضى وحسابات شخصية ومذهبية وسياسية. والفتنة الانقلاب على الدولة والدستور والنظام والمؤسسات تعني تكريس شرعية الغاب في البلاد وتعميم الفلتان والانهيار، ويخطىء من يعتقد من أصحاب القضايا الكبيرة أنه يستفيد من ذلك. أما الانقلاب فهو الفتنة. هو الحقد والغرائز وإسقاط الدولة ومفهومها لأنه يستند إلى القوة والقوة فقط. والقوة هنا هي قوة السلاح أو المال أو العدد وليست قوة القضية، لأن القوة الأخيرة يجب أن تكون قوة الجميع وقوة للجميع، وإلى حدود بعيدة هي اليوم كذلك نظراً إلى حاجة الناس وقناعة الناس بالقضية سواء أكانت مواجهة إسرائيل وغطرستها وحقدها أو قوة الدولة، لأن كل التجارب أثبتت وتثبت اليوم أن لا أحد استطاع أن يحل محل الدولة. وكثيرة هي الاعترافات في الصالونات والمجالس وأحياناً على المنابر والشاشات التي نسمعها من القيادات، وهي تشير إلى عدم قدرتها على ضبط حالات التفلت في بيئاتها. فمن يضبط؟ ليس ثمة إلا الدولة. والقوة في وجه إسرائيل هي الإنجاز والفخر والعزّ والتاريخ وانقلاب على مشروع إسرائيل، لكن القوة في الداخل هي انقلاب على الإنجاز وإسقاط للفتنة على اللبنانيين وبينهم؛ الفتنة هزيمة لنا جميعاً. والانقلاب هزيمة لنا جميعاً. وخصوصاً لأصحابهما. وإسرائيل التي نقول عنها مقتنعين إنها تريد الفتنة في لبنان، والانقلاب على إنجازاته ومؤسساته، وتزرع الخلايا والجواسيس والعملاء في كل المناطق، وتستهدف المقاومة ورموزها ولا ترى وسيلة للانتقام منّا أفضل من الفتنة في الداخل، فتحوّل انتصارنا إلى هزيمة وتحوّل هزيمتها إلى انتصار؛ إسرائيل هذه ماذا تريد أفضل من هذا المشهد اللبناني والخطاب اللبناني والسلوك اللبناني في بث الأحقاد والسير نحو الفتنة أو الانقلاب أو الاثنين معاً؟ وأميركا التي نقول عنها مقتنعين إنها تريد الفتنة، ولا تريد لبنان قوياً منيعاً، ولا ترى إرهاب إسرائيل، بل تعتبرها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وتريد التغيير في الشرق الأوسط نحو الديمقراطية على قاعدة هذا المفهوم للديمقراطية، وأميركا التي تحمي إسرائيل في انتهاكاتها اليومية للقرارات الدولية وفي تهديداتها للبنان، ماذا تريد أفضل من هذا المشهد؟ وهذا الخطاب وهذه الأزمة في لبنان لتدخل من خلالها لتحقيق ما تريده؟ والخلايا الإسرائيلية التي نكتشفها ونطلع على خطر مشاريعها، والخلايا الإرهابية التي يتحدث عنها كثيرون ويحذرون من خطورة حضورها وتنامي دورها، وأجهزة المخابرات الدولية المختلفة التي نتحدث عن وجودها بشكل مباشر أو غير مباشر في لبنان وتريد استخدام بلدنا ساحة صراع وتصفية حساب وإثارة فتن فيه، كل هؤلاء ماذا يريدون أفضل من هذا المناخ للدخول إلى مناطقنا وبيوتنا ومؤسساتنا وعقولنا ونفوسنا وتوريطنا؟ ماذا لو قام أحدهم أو جهة ما من هؤلاء أو من غيرهم بعمل أمني ما في البلد إلى أين تذهب الأمور؟ من يستطيع أن يعرف الحقيقة في كل هذا السقف المكشوف المكسور وعلى الأرض المخترقة بشتّى أنواع الاختراقات في الزوايا التي يركن وراءها كل المتربصين! نتحدث عن الفتنة والانقلاب وكأننا ذاهبون إليهما، وإلى تداعياتهما الخطيرة التي لا تخدم إلا الأعداء. فما بالنا؟ ألم يعد ثمة صوت عاقل وشجاع وقادة عقلاء وشجعان يقدمون فيرسمون خطاً أحمر يقفون عنده ونحمي لبنان واللبنانيين وإنجازاتنا وانتصاراتنا؟ ماذا نفعل؟ هذا ما يجب أن نفعله. هذا ما يجب أن يقدم عليه قادتنا، كل قادتنا. وإلا كانت الحقيقة المعذبة: لم يعد ثمة كبار في لبنان، لم يعد ثمة قادة في لبنان في موقع القرار والتأثير على منع الفتنة والانقلاب في لبنان؟ فمن هو الذي سيحظى بشرف قيادة الرجال كما كان يقول كمال جنبلاط؟