على مدار ثلاثين عاماً والاحتقان الطائفي في مصر يعشش في أعطاف مجتمع اتسم طيلة تاريخه المديد بالتسامح، ولكنه لم يتوحش ويستفحل، حتى هذه اللحظة، ليصبح فتنة، أو يفتح الطريق أمام تطاحن واقتتال وفوضى. وعلى رغم ما أثير مؤخراً من "حرب تصريحات" أو "مواجهات إعلامية" بين بعض رموز الكنيسة وبعض المفكرين الإسلاميين البارزين، فإن مصر لا تزال قادرة على استيعاب هذه الاختلافات والخلافات التي تنشب بين حين وآخر، ثم تنقضي كأن شيئاً لم يحدث، ليظل التيار الاجتماعي الرئيسي معافى من هذه الضغائن، أو مؤمناً بضرورة بقاء النسيج الوطني من دون تمزق ولا تهتك. فقبل أيام خرج الرجل الثاني في الكنيسة الأنبا بيشوي بتصريح غريب وعجيب وصف فيه المسلمين بأنهم "ضيوف على مصر" ورد الدكتور محمد سليم العوا المفكر الإسلامي باتهام الكنيسة بأنها تريد أن تكون "دولة داخل الدولة" ولمح إلى وجود "مخازن أسلحة بالكنائس" فرد الرجل الأول للمسيحيين الأرثوذكس الأنبا شنودة بنفي هذا تماماً. وانفتح الباب على مصراعيه في مصر كلها، لأخذ ورد بين هذا وذاك، لتنبني معركة إعلامية جديدة، أنتجت في طريقها أصواتاً عاقلة تدعو الطرفين إلى التمهل والتعقل. وفي غمرة هذا الجدل العارم وجدت نفسي أستعيد حكاية قديمة كان الناس في قريتي يتداولونها لعقود عدة، وقد كانت دالة وحاضرة وأثيرة وبراقة إلى درجة أنها دفعتني كي أكتبها رواية صدرت مؤخراً تحت عنوان "زهر الخريف". وتنطلق هذه الرواية من تجربة اجتماعية وإنسانية خالصة أضفت إليها من خيالي الكثير، بعد أن وضعت الأحداث في سياقها التاريخي السليم، ودققتها بوضوح، وربطت تفاعلات شخصيات الرواية بما كان يجري وقتها في الواقع المعيش، وهو ما أعطى مثلًا ناصعاً على روح التسامح والتعاون التي كانت تسود بين المسلمين والمسيحيين في مصر، قبل الدخول في نفق الاحتقانات الطائفية التي بدأت بحادث الخانكة الذي أطلق قبل ثلاثين عاماً موجة طائفية بغيضة لا تزال تعيش في مصر حتى هذه اللحظة. وتدور أحداث الرواية في الفترة الواقعة بين هزيمة يونيو 1967 وانتصار أكتوبر 1973 وترسم لوحة تزخر بالعديد من الشخصيات المجهدة، التي تروض وقتاً يمر ثقيلاً في انتظار شاب ذهب إلى الحرب ولم يعد، بعد أن كان يملأ الدنيا بأفعاله البطولية في مطاردة مجموعة من اللصوص الطامعين في قريته الغافية المستكينة. وبطلا الرواية هما شابان مصريان أحدهما مسلم والآخر مسيحي، يعيشان في قرية صغيرة يلفها النسيان وسط صعيد مصر، وتحارب بالرصاص والغناء اللصوص الطامعين في القوت والبهائم. وهذه الروح الأصيلة والحزينة في آن، جعلت الرواية تحتفي بالموروث القصصي الشعبي إلى جانب الكثير من ألوان الفلكلور كالأمثال والتنجيم والحكمة الإنسانية الخالصة، التي اقتطفتها من مصادرها الأصلية ووظفتها تباعاً في النص السردي المتتابع، وهي الأخرى تثبت أن الفلكلور المصري واحد لا يفرق بين مسلم ومسيحي، وهذا ذو دلالة عميقة على امتزاج المنابع الثقافية المصرية. هذان الشابان صديقان جمعهما حب المغامرة، وذكريات الطفولة، والخوف على ذويهما المتعبين، قادا أهاليهما في معارك حامية دفاعاً عن قريتهما ضد عصابات الليل. وحين وقفا على أبواب الشباب الغض، جاءتهما الفرصة للدفاع عن الوطن برمته، فذهبا سويّاً إلى حرب 73، وعاد ميخائيل شهيداً، وضاع عليّ في الصحراء الواسعة لتبدأ رحلة البحث عنه، وتشتعل الأسئلة، من دون أن تتهادى الإجابات، ولكن أثناء البحث، في حد ذاته، يكتشف الجميع، مسلماً كان أو مسيحيّاً، أنهم في قارب واحد، وخندق واحد، وأن العثور على ما ضاع يقتضي أن يتضافروا معاً، ويتلاحموا سويّاً. ويظل أبطال الرواية حائرين في التوصل إلى ما يشفي الغليل ويريح النفوس التي يعتصرها الألم، ويلهثون ما وسعهم في سبيل فك هذا اللغز العصي، ويلهث معهم القارئ حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، التي حملت إجابة تنطوي على مفارقة، وتبرهن على أن "الدنيا" ضيقة على رغم اتساعها، وأن ما نجري أحياناً وراءه دون فائدة قد يأتينا في لحظة عابرة دون أدنى ترتيب، ودون أي جهد كبير نبذله. ولكن الأهم من كل هذا أن الرواية تعطي أمثولة ناصعة على الروح التي كانت تسود بين المسلمين والمسيحيين في مصر، قبل صعود الجماعات المسيسة التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها وترفع من بعض تعاليمه شعارات تعبر عنها، حيث استهدفت مصالح المسيحيين واستحلتها، وكذلك قبل صعود الدين إلى واجهة الأحداث على المستوى الدولي، ليشكل عنصراً رئيسيّاً من عناصر الصراعات بين الأمم في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. إن الرواية تحمل "قضية" جوهرية، من الضروري أن يلتفت إليها الأدب، وهي قضية "الوحدة الوطنية" شريطة ألا يقع العمل الإبداعي في فخ الأيديولوجيا أو الوعظ أو المنشور السياسي، وهو ما تجنبته في روايتي، فلم يطغ مضمونها العامر بالقيم والمعاني على شكلها الساعي إلى الاكتمال بقدر المستطاع، فتضافر المعنى مع المبنى. وهذه مسألة رعاها أديبنا الكبير الأستاذ بهاء طاهر في رائعته "خالتي صفية والدير" التي أحدثت صدى كبيراً في مصر حين صدورها عام 1992، في وقت كان العنف على أشده بين الجماعات المتطرفة والسلطة، وكان المسيحيون يدفعون ثمناً إلى جانب جموع المسلمين لهذا الصراع الدامي. لقد أهدتني حكاية شابين مسلم ومسيحي جمعتهما صداقة غالية، رواية كاملة، وهي واحدة من حكايات تناسلت في ربوع مصر كافة، قبل عقود من الزمن. ففي كل بلدة هناك مئات القصص عن الوحدة الوطنية، التي هي إلى جانب الضمان الدائم لتدفق النيل، العصب الرئيسي للأمن القومي المصري، ولا تفريط في هذا مهما تعاقبت الأنظمة الحاكمة. وكل هذه الحكايات والروايات تبرهن على أن مصير الاحتقان الطائفي في مصر إلى زوال.