لست أذكر مَن مِن خلفاء الدولة الأموية استخدم هذه العبارة في وصف حال دمشق عاصمة الخلافة الأموية التي لم تكن تخرج من مواجهة إلا لتدخل في أخرى، لكن هذا الاستفهام الاستنكاري ينطبق بالتأكيد على بيروت التي اعترف الشاعر نزار قباني في واحدة من قصائده الجميلة قائلاً: "إنا كنا منك نغار... وكان جمالك يؤذينا". ذلك أن المراجع للتطورات السياسية في لبنان في العقود الأخيرة يتبين من المنظور التاريخي أنها تكاد لا تهدأ يوماً، فمن حرب أهلية دامت قرابة خمسة عشر عاماً إلى أوضاع سياسية هشة بعد انتهاء الحرب، إلى اغتيال الحريري، إلى تعقيدات هائلة في تشكيل الحكومات اللبنانية على رغم إجراء انتخابات نيابية نزيهة في كل مرة، إلى أزمة اختيار خلف لرئيس الجمهورية السابق حتى بقي لبنان شهوراً دون رئيس، إلى أحداث مايو (آيار) 2008، وغير ذلك الكثير الذي قد لا يعني ذكره أكثر من إثارة المواجع فقد تكسرت النصال على النصال، والمحزن أن الشعب اللبناني في الأصل والأساس يعشق لبنان بتركيبته وصيغته الحالية، وهو شعب متسامح محب للحياة لا يطلب أكثر من العيش الكريم المستقر، لكن استمرار الأزمات والتوتر على هذا النحو من شأنه دون شك أن يفكك تدريجيّاً من الأواصر التي تربط بين طوائفه المختلفة وهنا تكون الكارثة. ولنتتبع ما يجري في هذه الأيام على خلفية تصاعد الحملة التي يشنها اللواء المتقاعد جميل السيد المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي في لبنان الذي احتجز ظلماً مع ثلاثة من زملاء له في قضية اغتيال الحريري، حتى قرر المدعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الحريري ألا وجه قانونيّاً في استبقائهم قيد الحجز فاستردوا حريتهم، ويجب أن نتذكر أولاً أن ما فعله جميل السيد ليس سوى حلقة من سلسلة الأفعال التي تصب في اتجاه تحدي الدولة ومؤسساتها، فمن حادث برج أبي حيدر الذي استخدم فيه "حزب الله" السلاح في الشهر الماضي، إلى هجوم عون على الدولة ورموزها ومؤسساتها بما في ذلك فرع المعلومات المسؤول عن توقيف أحد مساعدي عون بتهمة التخابر مع إسرائيل، والتهجم على رئيس الجمهورية معتبراً أن الدولة قد سقطت. نحن إذن إزاء منظومة من الهجوم على الدولة اللبنانية ومؤسساتها ورموزها قد تكون منسقة سلفاً، وقد تكون ناتجة عن رغبة الحلفاء في المعارضة في استغلال الموقف كل لصالحه لكن النتيجة واحدة وهي المساس بالدولة اللبنانية وتهديد مؤسساتها ورموزها. ثم علينا بعد ذلك أن نتذكر ثانيّاً أنه في أعقاب الحلقة التي نفذها اللواء جميل السيد من سلسلة الهجوم على الدولة اللبنانية بمؤسساتها ورموزها اصطفت القوى السياسية اللبنانية في حالة استقطاب شبه كامل، فوقف معسكر "8 آذار" خلف جميل السيد إلى حد توفير "حزب الله" الحماية له بعد عودته من باريس سواء في المطار أو في موكبه وصولاً إلى بيته، ورد معسكر "14 آذار" بعنف متهماً "حزب الله" ومن معه بالتدبير لانقلاب شرس، ولم يتميز في هذا الصدد سوى موقف كتلة نبيه بري رئيس البرلمان الذي أثنى على موقف رئيس الحكومة الذي تعرض له السيد بالهجوم وكتلة وليد جنبلاط رئيس اللقاء اللبناني الديمقراطي الذي استغرب في إطلالته الأسبوعية من خلال صحيفة الحزب أن يأتي هذا الهجوم بعد مراجعة حقيقية قام بها رئيس الحكومة تجاه قضية اغتيال والده وتبرئة سوريا من الاتهام الذي علق برقبتها في أعقاب الاغتيال معترفاً بوجود شهود زور. ومثل هذا الاستقطاب شبه المكتمل لابد وأن يكون نذير سوء وتمهيداً لشر يلحق بلبنان. تزداد خطورة المشكلة عندما نتذكر فحوى الهجوم الذي شنه اللواء جميل السيد على الحكومة ومؤسساتها وبالذات المؤسسة القضائية، فقد تحدث عن شهود الزور في قضية اغتيال الحريري وضرورة محاكمتهم، وله كل الحق في هذا، لكن هجومه تضمن تلك العبارة بالغة الخطورة "اقسم بشرفي إن لم تعطني حقي -أي سعد الحريري رئيس الحكومة- سآخذه منك يوماً ما بيدي" وهو تهديد صريح مفتوح الآفاق لا يمكن لمؤسسات دولة أن تقبله، ودعوة للفوضى من قبل كل أولئك الذين يشعرون أن القضاء لم ينصفهم. وهكذا فإن "حزب الله" الذي يوفر الحماية للسيد إنما يدعم في الوقت نفسه منطقه حتى وإن لم يقصد ذلك. أي يدعم منطق أخذ الحقوق باليد إذا لم يتم الحصول عليها من مؤسسات الدولة، وهو منطق يمكن أن يستخدم في العلاقات بين العشائر وليس بين القوى السياسية في دولة يفترض أنها حديثة. والغريب أن "حزب الله" يبرر هذه الحماية بأنها تأتي "لإنقاذ الدولة وهيبتها وسمعتها من الذين بتصرفاتهم الفردية والتعسفية يريدون أن يسيئوا إليها مرة أخرى، ولإنقاذ القضاء اللبناني من بعض من فيه الذي أساء إليه من قبل". أي أن المطلوب منا أن نصدق أن حماية السيد بما في ذلك عدم تنفيذ مذكرة المدعي العام التمييزي التي طالبت بمثوله أمام المباحث الجنائية المركزية للاستماع إلى إفادته حول ما أدلى به من تصريحات أخيرة هي حماية للدولة! يبدو هذا المنطق متهافتاً لأنه لا "حزب الله" ولا "التيار الوطني الحر" بعيدان عن مؤسسات الدولة فهما شريكان كاملا الشراكة في مجلس النواب اللبناني وفي حكومة الوحدة الوطنية الحالية في لبنان، ويعني هذا أن البديل الأكثر اتساقاً مع منطق الدولة هو إثارة هذه القضايا داخل تلك المؤسسات والدفاع عن موقفيهما في هذا الإطار. ولاشك أن موقف "حزب الله" بالذات كان ليؤخذ بعين الاعتبار لما نعرفه عن ميزان القوى السياسي (والعسكري!) داخل لبنان. والأعجب من ذلك أن رئيس "تيار المردة" المتحالف مع "حزب الله" يقول إن لبنان جزء من تفاعلات المنطقة عربيّاً وإقليميّاً، ويلمح إلى ما معناه أن الأمور لن تستقر فيه إلا إذا حُل الصراع العربي- الإسرائيلي، وتشكلت الحكومة العراقية، وحسمت قضية الملف النووي الإيراني (لصالح إيران طبعاً) وغير ذلك، وهو -أي أن ارتباط لبنان ببيئتيه العربية والإقليمية- كلام حق في المطلق، لكن أن ينتظر لبنان إلى أن تسوى كل هذه الملفات أمر خطير، لأن بعض هذه الملفات لن يتم حله نهائيّاً إلا في عشرات السنين، فهل يبقى في لبنان -بعد هذه المدة- ما يمكن من التنعم بثمار الاستقرار العربي والإقليمي؟ ولماذا يا ترى تفجرت هذه الحملات في أعقاب التفاهم السعودي- السوري وعلى الرغم منه؟ ألا يعني هذا أن ثمة حدوداً للتأثيرات الإيجابية التي تحدث من الخارج إذا بقيت الأوضاع الداخلية مهترئة؟ ويعني المنطق السابق أن على لبنان أن ينتظر عقوداً حتى ينعم بالأمن والاستقرار، وهو استشراف للمستقبل قد يكون في غير محله، ولذلك أخشى أن يؤدي تكرار التأكيد الصحيح على أن لبنان جزء من بيئتيه العربية والإقليمية إلى إهمال السعي من أجل حل المعضلة اللبنانية الداخلية في ذاتها، وهذا ممكن وإن تكن له حدوده، ولا يريد المرء أن يأتي يوم يكتشف فيه أن لبنان ليس هو الذي كان ينبغي عليه أن يراعي المعادلات العربية والإقليمية وإنما هذه المعادلات تحديداً هي التي كان يتعين عليها أن تراعي لبنان.