من الحتميات التاريخية كما يقول هيجل أنّ المجتمعات والدول في حراكٍ دائمٍ. إنها تنتقل من مرحلة لأخرى وتتنقل من مسارٍ لغيره حسب العديد من المتغيرات التي تتحكم في حراكها وتطورها وتخلفها. ولئن كان هيجل يؤكد أن التاريخ يمر بدوراتٍ، فإن علماء الأنثروبولوجيا يزيدون التأكيد بأن حياة البشر تمرّ –كذلك- بدوراتٍ على المديين القصير والطويل، وعلماء الاقتصاد يسيرون في ذات الاتجاه وأن اقتصادات الدول والشعوب تمرّ بدوراتٍ مماثلة، إن هذا كلّه يؤكد أننا في عالم متحرك وموّار لا يتحكم فيه الواقع إلا بقدر ما تؤثر فيه الآيديولوجيات، وفي نطق الحكماء ما يغني عن تشدّقات الأغبياء، فالتغيّر سيّد الأحكام، والتطوّر مقياس الوعي. طبيعة التاريخ ومنطق التراث وعقل الواقع كلها تنبؤنا مجتمعةً بأننا يجب ألا ننحصر في رؤية تاريخية معينة أو حدث ماض معروف، وأننا يجب أن نفرّق بين ما جرى في الماضي وما يجري في الحاضر، بمعنى أننا مع احترامنا لماضينا مهما كان مجيداً ومؤثراً فعلينا أن ننتبه لواقعنا ومستقبلنا، فالماضي ماضٍ والمستقبل مستقبلٌ، والحاضر بينهما كخيالٍ سارٍ، إما أن يرجّح كفّة الماضي فيضيع، وأما أن ينحاز للمستقبل فيبدع، والقرار على الدوام بيد صانعه، والخيارات أمامه متاحة، والتوجهات معروفة. العالم كلّه يشهد ارتباكاً جرّاء السرعة في كل شأنٍ، فالشباب يسبق الشيوخ في المعلومة والتحليل والتحصيل العلمي، والواقع المعيش وشروطه أهم من الماضي وتركاته، والأمل يهزم الذكرى، والحلم يتجاوز المعطى التاريخي والمكانة الواقعية. نرى هذا يجري في كافة المجالات، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وثقافياً، أما دينياً فلم تزل المعركة سجالاً بين الموثقين بأغلال الماضي والتاريخ والتراث، والطامحين إلى آفاق الغد والتجديد والآتي، إنّها معركة كانت ولاتزال وستبقى بين الخاضعين للأمس والمغردين بأناشيد الغد. إننا نراهم اليوم في إيران يتغنّون بأمجاد ماضٍ تليدٍ قد تولّى، وهم يسعون جهدهم لجعله واقعاً، ونراهم في الجماعات الإسلامية يبذلون الغالي والنفيس في سبيل تثبيت مكانتهم وتقرير أحقية خطابهم،كما نشهدهم هنا وهناك في عالمنا الإسلامي يقترفون شتى الخطايا قبل أن يسلكوا شتى المسالك لإثبات أحقيتهم وحضورهم. لقد سئم نشّاب سهام اليوم المليء بالواقعية أن يحجّم التطرّف في باكستان وأفغانستان والصومال، وقد ملّت حسابات الأرباح والخسائر أن توجد وضعاً مستقراً في اليمن، فالآيديولوجيا تظلّ تواجه الواقعية السياسية والاقتصادية والعملية، ولئن فشلت السياسة حيناً فإنه ينبغي عليها استعادة زمام المبادرة من الأيديولوجيا وإعادة ترتيب المشهد، وها هو اليمن أو بعض الجهات فيه على أقلّ تقدير تلعب بالنار، فتشح بالمعلومة وتعلن التعاون ثم لا تسارع فيه، ويحسب بعض الأطراف أن جمع خيوط اللعبة بيده سيضمن له طول البقاء، ولكن اللعب بالتيار "الحوثي" واللعب بـ"القاعدة" هو لعب بالنار على كل المقاييس. السعودية اليوم تدخل مع أميركا في صفقة تاريخية غير مسبوقة تقدّر بستين ملياراً من الدولارات، تتضمن شتى أنواع الأسلحة المتطورة والمتقدمة، والتي ستعرض على الكونجرس الأميركي ولن يستطيع لها رداً، نظراً لما يجري في العالم من تنازعاتٍ سياسيةٍ وأزماتٍ اقتصاديةٍ وما يحدث في المنطقة من شرر فتنةٍ يريد لها البعض أن توقد ويسعى جهده لنشرها على أوسع نطاق. إننا في الخليج بحاجة لجمع الكلمة وتوحيد الجبهة باتجاه أعداءٍ يكشرون أنيابهم، ولا يخفون طموحهم في النفوذ علينا، وهم يسعون بالمؤامرة تلو المؤامرة لزعزعة أنظمتنا السياسية. ولا يقلّ خطراً عن أعداء الخارج إلا أعداء الداخل، أولئك الذين ينخرون في البنيان كالسوس، ويخرقون السفينة من الداخل، ولهم تنظيمات وتحزبات وخطط ونفوذ يبدو ناعم الملمس، لكنّه كملمس الأفعى، كما قال الأول: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها/ عند التقلّب في أنيابها العطب إنهم يوزّعون بينهم الأدوار بعناية فائقةٍ، بعضهم يتقرّب من السلطة وبعضهم يتقرب من المعارضة، بعضهم ينحاز للأغنياء وبعضهم يحمل لواء الدفاع عن الفقراء، بعضهم يستهدف النخب، وبعضهم يستهدف العامة، لكل تخصصه، ودوره، والغاية واحدة، إقامة الدولة الإسلامية كما يفهمون ويحرصون ويعملون، بما يتضمّنه هذا من نفي المشروعية السياسية عن الدولة القائمة خاصةً في شقها الديني. إنهم لا يفتأون يفتلون في الذروة والغارب لدى كل مسؤول كبر أم صغر، لمحاربة خصومهم وأضدادهم، وحتى المستقلين عنهم وعن توجيههم إن كان لهم شيء من سلطة أو جماهيرية أو استقلال عنهم، إنهم كالذئب الذي لا يهرول عبثاً، وقد استهدفوا بنبالهم المسمومة شتى الفئات من غازي القصيبي الوزير والسفير، إلى معلم مدرسة هنا وموظف مغمورٍ هناك، يبرعون في كتابة التقارير المغرضة بالقلم الأسود، وهم يحملون الخناجر المضرجة بالدم الأحمر خلف ظهورهم. وبما أنهم يرون الوطنية كفراً والانتماء للتراب الوطني ردةً، ومحبة الأوطان خروجاً عن الملّة، فإنهم يستبيحون في حق الوطنيين كل المحرّمات من كذبٍ وتزييفٍ وافتراء، ويترصّدون كالثعلب لكل شريف ومخلص، ويتحينون الفرص لمضرته والنيل منه، فمرةً يحملون كلامه ما لا يحتمل، وأخرى يبحثون له عن خطأ هنا أو زلة هناك ليطبّلوا حولها، ويشحنوها بكل المساوئ والمخازي. وهم حين يفعلون هذا لا يدفعهم له إخلاص وطني صادق، فهذا لديهم من الكفر، ولا سعي للإصلاح الحقيقي، فذلك لديهم من المعائب، وإنما هي الرغبة في تحطيم المخلصين والقضاء على الساعين للإصلاح، حتى تخلو لهم الساحة فيفعلون بها ما يشاؤون. لقد آوت السعودية "الإخوان المسلمي"ن حين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، وحين تعرضوا للاضطهاد والتعذيب والتنكيل في سجون الناصرية، ومنحتهم السعودية ودول الخليج الحياة الكريمة، والعيش الرغيد، وقدمت بعضهم ووثقت بهم، فلم يلبثوا أن ردّوا الجميل بأسوأ ما استطاعوا، فخلقوا تنظيماتٍ إخوانيةٍ داخل السعودية ودول الخليج، مع علمهم بالمنع الرسمي لها، وزادوا على هذا باتهامهم لرمز الدولة السعودية الحديثة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بأنّه كان وراء اغتيال البنّا حسب ما صرّح به المرشد العام السابق لهم عمر التلمساني. المرحلة التي نعيشها اليوم مرحلة شديدة الحساسية على كل المستويات، ولولا أنني أكره التعبير بالمنعطف الخطير لكثرة ما ابتذل لقلت بأننا نمرّ به، والحصيف من رأى الصورة الكبرى، ولم تعمه التفاصيل، والواعي من استطاع تحليل ما يجري وعرف ما يستحق الوقوف عنده وما يمكن تجاوزه.