بعد تسعة أعوام من الحرب والمواجهات المفتوحة بين القوة الأكبر في العالم المنخرطة في الحرب على الإرهاب وبين "القاعدة" وفروعها، تؤكد الدراسات الرسمية والأكاديمية الأميركية، وغير الأميركية، أن التنظيم مازال لاعباً خطيراً وقادراً على المناورة والانخراط في عمليات كر وفر وتجنيد كوادر في الشرق والغرب على رغم الإجراءات الأمنية المشددة وتبادل المعلومات بين مختلف الدول، وكافة أشكال السياسة الأمنية الحازمة التي شملت أحياناً حتى التعدي على حقوق المواطنين في الدول الديمقراطية. ومع أن كاتباً أميركيّاً مرموقاً مثل فريد زكريا يؤكد الآن أن "القاعدة" قد أفل نجمها وتراجع خطرها وتآكلت أعداد كوادرها من الآلاف إلى المئات، وأن أميركا اليوم أكثر أمناً، إلا أن الواقع القائم لا يسند عمليّاً هذا التحليل المتفائل. وبعد مرور تسعة أعوام على تحدي "القاعدة" للقوة الأعظم بكل قواها الصلبة والمرنة، العسكرية والثقافية، يستمر خطر "القاعدة" بعد كل تلك الأعوام والحروب -والمواجهات والانتصارات والنكسات- وعلى رغم تلقيها ضربات موجعة وعجزها بل وفشلها في القيام بأي عمل إرهابي كبير منذ تفجيرات 11 سبتمبر 2001، ولكنها لاتزال، على رغم ذلك، خصماً عنيداً ومتحديّاً وفق ما تؤكده التقارير الاستراتيجية التي تعتبرها اليوم العدو الأول للولايات المتحدة الأميركية. وليس ذلك فحسب، بل إن تقريراً رسميّاً أميركيّاً ظهر في الذكرى التاسعة لاعتداءات 11 سبتمبر يحذر من خطر "أمركة القاعدة" إذ على رغم الضربات الكبيرة التي تلقتها إلا أنها نجحت في تجنيد مواطنين أميركيين مثل الشيخ أنور العولقي اليمني الأصل، والعسكري نضال حسن الذي قتل 13 من زملائه الجنود في إحدى القواعد الأميركية. ويشير التقرير المذكور بهذا التحذير إلى أن الولايات المتحدة قد تواجه تهديداً متزايداً من متمردين محليين من داخلها وهو ما عبر عنه بخطر "أمركة" قيادة "القاعدة"، ملمحاً إلى أن هناك خوفاً من اتساع ظاهرة التطرف بين المسلمين في الولايات المتحدة نفسها. والحاصل من كل هذا أن تنظيم "القاعدة" يبقى هو العدو الأول لأميركا، ولذا فإن الحرب عليه ستبقى مفتوحة، وهي حرب يؤكد الرئيس الأميركي أوباما بوضوح أنها ضد "القاعدة" تحديداً، وليست ضد الإسلام الذي لا تمثله بأي شكل. وكل هذا يؤكد أن طبيعة التهديد الذي تتعرض له الولايات المتحدة اليوم وما يترتب عليه من تحديات يختلف عما كان عليه الحال قبل تسع سنوات. وهكذا اقتضت طبيعة هذا التحدي، ومواجهات أميركا الدائمة للإرهاب في حرب غير متماثلة، من الولايات المتحدة تعديل استراتيجيتها التي سعت لعقود لتكريس توازن القوى الدولي لخدمة مصالحها وترسيخ هيمنتها على المستوى العالمي حسب الاستراتيجية الأميركية الكبرى، ليؤشر التعديل الذي يزداد الشعور به إلى حصر اهتمامها وبشكل واضح على الإقليم الممتد من منطقة أفغانستان- باكستان إلى الشرق الأوسط مروراً بإيران والعراق، حيث تسعى أميركا، بما تملك من قدرات وعلاقات ومصالح وحلفاء، على تكريس توازن ثلاثي مزدوج للقوى: الأول بين العرب وإسرائيل. ولاشك أن سياسة حكومة نتنياهو تخل بذلك التوازن لتتحول مع مرور الوقت إلى عبء يهدد الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وسط تحذيرات متكررة من ذلك وبشكل متصاعد من القادة العسكريين الأميركيين أنفسهم ومن بعض مراكز الدراسات والباحثين الأميركيين، من مختلف المشارب. أما التوازن الثاني التي تسعى واشنطن لتكريسه فهو في تآكل كامل بين الهند وباكستان بسبب حرب أفغانستان التي فقدت بعدها الاستراتيجي من كونها حرباً ضد "القاعدة" و"طالبان"، فإذا بها تتحول إلى حرب بلا أفق، لتبدو أشبه بمستنقع موحل في أفغانستان- باكستان. أما التوازن الثالث الذي سقط كليّاً فقد أسهمت واشنطن نفسها أصلاً في خلخلته بحساباتها الخاطئة بحربها على العراق التي قضت فيها على توازن الرعب الخطير بإسقاطها نظام صدام الذي كان يؤمِّن توازن القوى مع إيران، فإذا بها اليوم تفقد ذلك التوازن في أهم منطقة استراتيجية في العالم. والراهن أن واشنطن على رغم نجاحها في منع وقوع اعتداء على الأراضي الأميركية خلال الأعوام التسعة الماضية، وذلك بسبب الإجراءات الأمنية المشددة والتنسيق الاستخباري والأمني، إلا أن بقاء بن لادن والظواهري وبعض أخطر قيادات "القاعدة" أحراراً وأحياءً، ونجاح التنظيم في تجنيد المزيد من الكوادر والعناصر بما في ذلك حتى على الساحتين الغربية والأميركية، وفي أنحاء أخرى متفرقة من العالم عن طريق المواقع الجهادية وتحت مسمى "الإرهاب الشامل"، لاشك أن في كل ذلك الكثير مما يثير القلق، ويؤكد أن الحرب على الإرهاب وضد "القاعدة" ستكون مواجهة طويلة الأمد، وتبقى بحاجة إلى مزيج من التكتيك الأمني والانخراط في معارك فكرية وعقائدية أيضاً. كما أن هناك احتمالاً لأن يكون فشل "القاعدة" في تنفيذ عمليات ناجحة في أميركا مرده ليس للإجراءات الأمنية المتشددة بقدر ما هو بسبب قلة خبرة وسوء تصرف الانتحاريين مثل عمر الفاروق عبدالمطلب الذي فشل في تفجير طائرة ركاب أميركية فوق ديترويت عشية عيد الميلاد، وأيضاً الأميركي الباكستاني الأصل فيصل شهزاد الذي فشل في تفجير سيارة مفخخة في قلب مدينة نيويورك. وفي ضوء حجم الجهد المبذول مقابل محدودية النتائج يثير الآن كثير من المراقبين أسئلة ووجهات نقدية حول نتيجة الحرب الأميركية على "القاعدة" والإرهاب. وعلى سبيل المثال لا الحصر يرى فيليب مود العميل السابق بمكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي" وبمركز مكافحة الإرهاب التابع للاستخبارات الأميركية أن "ظهور جهاديين مدفوعين بالإيديولوجية يعني أنه حتى وإن تراجع التهديد الاستراتيجي للقاعدة فإن الخطر يزداد. ففي حين أن المجموعة الأصلية تعاني وقد تختفي، فإن الحركة بحالة جيدة". وعلى أية حال يمكن القول إن سجل الولايات المتحدة في المواجهة ضد "القاعدة" على رغم نجاحاته، إلا أنه يبقى محبطاً بشكل عام بعد تسعة أعوام، وحروب أميركا المفتوحة والمستمرة على الإرهاب و"القاعدة" و"طالبان" وأفغانستان والعراق، وإنفاق ألف مليار دولار على تلك الحروب. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو نصف الأميركيين يشعرون بعدم الثقة في قدرة حكومتهم في منع عمل إرهابي بمستوى هجمات 11 سبتمبر، في حين أن نسبة الأميركيين الذين يشعرون بالأمن في بلدهم قد انخفضت من 62 في المئة في عام 2008 إلى 48 في المئة فقط اليوم! كما أن هناك خوفاً متناميّاً، كما سبقت الإشارة، من تزايد تطرف المسلمين في الولايات المتحدة، وغير ذلك من هواجس قائمة تؤشر إلى أن طبيعة التهديد الذي تتعرض له الولايات المتحدة اليوم يختلف عما كان عليه الحال قبل تسع سنوات. ولذا فإن إدارة أوباما، مثلها مثل إدارة بوش، لاشك تشعر بالإحباط لعدم تمكنها من تدمير "القاعدة" كفكر وقدرات وتهديد على رغم التكلفة الباهظة والتضحيات الكبيرة التي تكبدتها. ولا شك أن نتائج جردة الحساب، بصفة عامة، محبطة ومربكة معاً لإدارة أوباما. ولذا فإن مواجهة الإرهاب مازالت بحاجة إلى التزام ومثابرة وتنسيق وانخراط أقوى في معركة الأفكار والعقائد، وليس فقط تصيد مقاتلي "القاعدة" في وزيرستان بباكستان، أو قصفهم بطائرات من دون طيار. كما يرى بعض المراقبين في حالة الولايات المتحدة بالتحديد، أن عليها ألا تدفن رأسها في الرمال وتنسى أن السبب الأساسي لاستهدافها هو سياساتها ومواقفها وحروبها واحتلالها لأراضٍ عربية وإسلامية ودعهما المستفز لكيانات وحكومات على رأسها إسرائيل.