لم يكن الناخبون الأميركيون أكثر تقلباً في مواقفهم مما هم عليه اليوم، فكثيرون منهم يشعرون الآن بالغضب بعدما اختلطت عليهم الأمور وعجزوا عن تحديد المسؤول الذي ينبغي أن يصبوا عليه غضبهم، والحقيقة أن أصل هذا الاستياء يرجع إلى الانتشار الواسع لمشاعر انعدام اليقين والتخبط لدى الأميركيين بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية التي طال أمدها، بالإضافة إلى انهيار الثقة الشعبية في المؤسسات الاقتصادية الرئيسية في الولايات المتحدة مثل "وول ستريت" والبنوك، فضلا عن تداعي مؤسسات الحكم متمثلة في الجهازين التشريعي والتنفيذي بواشنطن، والنتيجة أن هذا الغضب الجاثم على نفوس الأميركيين استغله البعض في الحزب "الجمهوري" والجناح اليميني من خلال البرامج التلفزيونية وجماعات الضغط التي حولت هذا التململ إلى حركة احتجاجية، وهو ما بدأ يتضح في الحملة الانتخابية لهذه السنة التي أصبح شعارها "نحن غاضبون ولذا سندلي بأصواتنا"! وفي ظل هذا الواقع غير المريح بالنسبة للأميركيين المتضررين من الأزمة والمستائين من المؤسسات الرسمية يمكن تفسير الانتصارات التي حققتها بعض الشخصيات غير المألوفة في الحياة السياسية الأميركية مثل "كريستين أودونيل"، التي فازت في الانتخابات الداخلية للحزب "الجمهوري" في ولاية ديلاوير متباهية بسيرة ذاتية غريبة ومريبة تشمل أكاذيب وتلفيقات بشأن تخرجها من الجامعة، وكذلك اعترافها بأنها تخلفت عن سداد ديونها الجامعية وأخرى ذات صلة بالرهن العقاري، بالإضافة إلى سجل ضرائب غير مريح، وعدم توليها لأي منصب عدا ترؤسها لجمعية مسيحية تدعو إلى العفة الجنسية. ولكن "أودونيل" ليست وحيدة ولا فريدة من نوعها إذ ينضم إليها أيضاً في ذات الخانة "كارل بلادينو" الذي حظي بتزكية الحزب "الجمهوري" للتنافس على منصب حاكم نيويورك على رغم أنه عُثر عليه وهو يوزع منشورات متطرفة ويبعث برسائل إلكترونية مخلة بالآداب العامة. وعلاوة على هذين المرشحين هناك العشرات من "الجمهوريين" الآخرين الذين سيتنافسون على مناصب في مجلس الشيوخ وحكام الولايات لا يختلفون في توجهاتهم عن المرشحين السابقين. ولعل مما دفع بهؤلاء الأشخاص هكذا إلى الواجهة وجعلهم يفوزون في الانتخابات الداخلية للحزب "الجمهوري" ذلك الغضب الشعبي العارم من الوضع الراهن، مصحوباً بدعم شخصيات وطنية مثل مرشحة نائب الرئيس السابقة، سارة بالين، وحركة النشطاء المعروفة باسم "حفلات الشاي"، وإلى غاية هذه اللحظة يبدو الاستياء والغضب الشعبي على نحو أكبر لدى الجانب "الجمهوري" بعدما سقط مرشحو المؤسسة الرسمية للحزب ضحايا التبرم السياسي الذي عبر عنه نشطاء حركة "حفلات الشاي"، وقد يعتقد البعض أن هذا الحراك الذي يشهده الحزب "الجمهوري" سيخدم مصالحه، فخلال الصيف الماضي وعندما كانت "حفلات الشاي" تستعرض عضلاتها أمام الجميع وتعطل الاجتماعات البلدية بشأن إصلاح النظام الصحي بالصراخ والتهديد باستخدام العنف بدا القادة "الجمهوريون" فرحين لذلك التطور، وعندما شكك بعض نشطاء الحركة في شهادة ولادة أوباما، مدعين أنه ولد في الخارج ومن ثم لا يحق له الترشح لمنصب الرئيس شجع "الجمهوريون" هذا العبث الفج ولم يحركوا ساكناً، وعندما استهدفت الحركة المهاجرين غير الشرعيين وطالبت بترحيلهم وقف إلى جانبها الحزب "الجمهوري" أيضاً في انقلاب غريب عن مواقفه السابقة، حيث كان بوش هو من اقترح برنامجاً لتسوية الوضع القانوني للمهاجرين تمهيداً لحصولهم على الجنسية، وحتى عندما هاجمت "حفلات الشاي" الحكومة الفيدرالية لإنقاذها القطاع البنكي وضخها الأموال في شرايين الاقتصاد القومي ركب الحزب "الجمهوري" الموجة على رغم أنه صادق على خطة الإنقاذ في عام 2008 كما أن العلاقة المصلحية بين الحزب و"وول ستريت" والشركات الكبرى ليست في حاجة إلى بيان، وفي كل هذا التأييد يبدو أن قادة الحزب "الجمهوري" اعتقدوا أن بإمكانهم توظيف الحركة الاحتجاجية التي تمثلها حركة "حفلات الشاي" لتحقيق مكاسب انتخابية، ولكن اليوم، بعدما رأوا كيف سقط مرشحوهم بسبب النيران التي ساهموا في إذكائها، بدأوا يستشعرون الخطر في الانتخابات القادمة مع احتمال سيطرة المتطرفين على الحزب وإعادة تسطير برنامج مغاير لتقاليده كما عهدناها في السابق. وأمام هذا الواقع المهدد لتماسك الحزب "الجمهوري" برز موقفان متباينان تعبر عن أحدهما السيناتور "ليوا موركويسكي" التي هزمت في الانتخابات الداخلية للحزب في ألاسكا على يد مرشح من "حفلات الشاي"، حيث رفضت تأييد المنتصر، معتبرة الحركة الاحتجاجية مجرد "مجموعة متطرفة خارجة عن الحزب" قامت بـ"اختطاف أجندته لصالحها". وفي المقابل يتبنى السيناتور "جيم ديمنت" موقفاً متشدداً، إذ يرى أن من الأفضل التعامل مع "أقلية جمهورية نقية بدلاً من التعامل مع جمهوريين بالاسم فقط"! ثم هناك عضو مجلس النواب "بوب إنجليس" الذي على رغم انزعاجه من الخطاب المتشدد لـ"حفلات الشاي" ما زال يمني نفسه باستيعاب المرشحين المتشددين داخل الحزب بعد فوزهم وقدومهم إلى واشنطن ليتحولوا تدريجيّاً إلى الوسط بعد احتكاكهم بإكراهات الحكم والتشريع في العاصمة الفيدرالية. وفي كل ذلك يبدو أن خط معركة نوفمبر القادمة سيفصل بين "الديمقراطيين" الذين يشغلون مناصب في الكونجرس ويواجهون صعوبات اقتصادية وتذبذب الناخبين وبين مجموعة نشطة من السياسيين الجدد ينتمون إلى يمين الحزب "الجمهوري" استطاعوا تأمين تزكية الحزب لخوض الانتخابات المقبلة لتبقى الكلمة الفصل في النهاية في أيدي الناخبين الذين، حسب استطلاعات الرأي، لم يحددوا بعد مواقفهم، أو الجهة التي سيصوتون لصالحها.