خلال العقدين الماضيين، أدى استخدام تقنية الهندسة الوراثية إلى إنتاج أدوية ومحاصيل زراعية، ساهمت في تحقيق نجاحات إنسانية باهرة، وجني أرباح مالية طائلة، بيد أن تطبيق تلك التقنية على الأجناس الحيوانية، التي تستخدم في توفير الغذاء للإنسان، تأخر كثيرا عن باقي التطبيقات.. على الرغم من حقيقة أن البروتينات الحيوانية مكلفة، ويشتد الطلب عليها في مختلف أنحاء العالم. والسبب في تأخير تلك التطبيقات، لا يرجع إلى مشكلات فنية، حيث تم بالفعل، ولأغراض علمية بحتة إجراء تعديلات وراثية، على حيوانات عن طريق إضافة، أو حذف جينات. ويقول العلماء إن كتالوج التغييرات الممكنة في مجال الهندسة الوراثية، يشبه دليل تليفونات مدينة صغيرة.وأن الحيوانات التي خضعت لعمليات تعديلات جينية، قد ساعدت في تقديم مساهمات غاية في الأهمية في مجال فهم وظائف الجينات الثديية في مجال الصحة والأمراض. لا يرجع السبب في تأخير تلك التطبيقات إلى مشكلات فنية إذن، وإنما يرجع في الحقيقة إلى السياسات العامة، وعلى وجه التحديد اللوائح والأنظمة المعقدة في أحيان كثيرة لدى بعض الهيئات والمؤسسات الحكومية. من بين هذه المؤسسات في الولايات المتحدة "إدارة الأغذية والعقاقير"FDA التي تشير آخر التقارير إلى أنها سوف تعقد عدة اجتماعات خلال الفترة 19ـ21 سبتمبر الحالي، لمناقشة إمكانية منح الموافقة على تسويق نوع من أسماك السلمون المعدلة جينياً بطريقة تسمح بنموها ووصولها لمرحلة البلوغ خلال مدة زمنية أقصر بكثير من الأنواع الأخرى العادية( غير المعدلة جينيا). وتأتي هذه الاجتماعات بعد ضياع عدة سنوات في التردد والمناقشات المعقدة. فبعد ما يزيد على عقدين من المداولات قرر مركز الطب البيطري، في إدارة الأغذية والعقاقير الأميركية أن كل حيوان معدل جينياً يجب أن يحصل على نفس الموافقات، ويخضع لنفس إجراءات ما قبل التسويق التي تمر بها العقاقير المخففة للألم، والأدوية المضادة ليرقات القمل، التي تستخدم في علاج أمراض الحيوانات. والمنطق الذي بنت عليه الإدارة قرارها في هذا الشأن هو أن بنية الحيوانات المعدلة جينياً، والوظيفة التي تؤديها بعد ذلك التعديل الجيني، يجب أن تكون معَّرفة بشكل دقيق، حتى يمكن تحديد العقار الذي يمكن أن يستخدم في علاجها . ولكن هذا التفسير يتجاهل بشكل تام حقائق العلم، والتجارب السابقة لـ "إدارة الأغذية والعقاقير ذاتها"، وما إذا كانت هناك خيارات تنظيمية أفضل من ذلك الخيار أم لا. ولكن ماهو نوع الأجناس الحيوانية التي نتحدث عنه؟ إنه نوع من السلمون يكثر في مياه المحيط الأطلسي ويحتوي على هرمون نمو يطلق عليه اسم"تشينوك"، وهذا الهرمون ينشط طيلة العام وليس فقط خلال المواسم الدافئة، كما هو الحال في الطبيعة، وهو ما يمكن أن يقلل من الفترة التي يحتاجها السلمون للنمو والوصول إلى مرحلة النضج التي تجعل من الممكن الاستفادة منه تسويقياً، بمقدار النصف على أقل تقدير. والتعديلات الجينية المقترح إدخالها على أسماك السلمون لا تؤدي إلى إحداث تغييرات في مظهر تلك الأسماك، أو طعمها، أو قيمتها الغذائية. وكل ما هنالك هو أنها تجعلها تنمو بشكل أسرع من أنواع السلمون الأخرى، وهو ما يحقق فوائد اقتصادية كبيرة للمشروعات التي تقوم بتربية تلك الأنواع في مزارع سمكية، لتوفيرها للمستهلكين، الذين سيستفيدون لاشك استفادة كبيرة تتمثل في توافر تلك الأسماك على مدار العام، وليس خلال الشهور الدافئة فقط، كما هو الحال بالنسبة للأنواع العادية غير المعدلة جينياً من السلمون. وهو ما يؤدي بالتالي إلى انخفاض أسعارها المرتفعة بشكل مبالغ فيه في الوقت الراهن. على الرغم من تلك الحقيقة الواضحة، فإن الموافقة على إجراء تعديلات جينية لهذا النوع استغرقت ما يقرب من عشر سنوات من المناقشات التنظيمية العقيمة. وقبل صدور الإعلان المتعلق بالسياسة الجديدة العام الماضي، لم تكن الهيئة المذكورة قد وضعت قواعد ولوائح تنظيمية لبعض الأنواع الحيوانية التي تربى في المزارع، أو الحيوانات التي تستخدم لـ"أغراض طبية. كما لم تعمل على فرض سلطتها على الحيوانات المعدلة وراثياً، لأغراض الأبحاث والتجارب التي تشمل العشرات من أجناس القوارض. والمقاربة الحالية لإدارة الأغذية والعقاقير في مجال الأغذية، كان يجب أن تكون قد طبقت على الأنواع الحيوانية المعدلة جينياً، ولكن منظميها وكما هي عادتهم دائماً، اختاروا النهج الأسلم، ولكن الأكثر صعوبة في ذات الوقت، وكانت النتيجة إثقال كاهل قطاع أعمال ـ كان يفترض فيه أن يكون مبتكرا ـ بقيود سياسة أدت إلى تضخيم نفقات الأبحاث والتطوير، وإعاقة الابتكار، وحرمان المستهلكين من منتجات أقل تكلفة، وذات تأثيرات مفيدة للصحة. وليس هناك ما يدعو للدهشة إذن عندما نعرف أن الكثير من الشركات قد آثرت عدم الزج بنفسها في هذه المتاهة التنظيمية. والسؤال هو ما الذي دفع هيئة الأغذية والعقاقير الأميركية لانتقاء هذا الخيار الأكثر إحباطا؟ لنتذكر هنا ما كان يقوله "فرانك يون" الرئيس السابق للهيئة وهو: "إن الأبقار تخور، والكلاب تنبح، والمنظمون ينظمون ". لا شك أنه كان على حق فيما قاله، ولكن كان يمكنه أيضا أن يضيف ملاحظة في شكل تساؤل هو: ما هو احتمال قيام المنظمين بالاعتراف بأنهم يبالغون أحيانا في اللوائح والتنظيمات، وأن تلك اللوائح والتنظيمات يمكن أن تعوق الأعمال، وتعطل النشاط، وتكبت الإبداع في أحيان كثيرة؟ والجواب هو أن احتمال قيامهم بذلك ضئيل للغاية. ------ هنري ميلر كاتب أميركي متخصص في شؤون العلوم والتقنية ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة"إم.سي.تي. إنترناشيونال"