توفّي قبل أيام المفكّر البارز محمد أركون، وهو جزائري المولد، فرنسي النشأة والتربية. ويُعتبر منذ زُهاء العقدين واحداً من سبعة أو ثمانية هم الأوسع تأثيراً بين المفكرين العرب المُعاصرين: العروي والجابري وأركون وجعيط وحنفي ونصر حامد أبو زيد وجابر عصفور ومحمد جابر الأنصاري. وأنا أودُّ أن أُلحقَ بهم قِلّةً من الآخرين؛ من مثل عبد الوهاب المسيري وفهمي جدعان وطه عبد الرحمن وعبد الله الغذّامي وسعيد بنسعيد العلوي. والواقع أنّ هؤلاء جميعاً تضمُّهُم رؤيةٌ واحدةٌ للعالَم، هي رؤية الحضارة الغربية باعتبارها حضارة العالَم الحديث والمعاصر. وربما أمكن القول إنه بالإضافة لذلك تجمعهم أيضاً إشكاليةٌ أُخرى هي إشكالية كيفيات التعامُل مع الموروث وشروط الدخول في الحداثة. وباستثناء طه عبد الرحمن (ومآلات المسيري)؛ فهم متفقون على أنّ الموروث الديني والثقافي يُعتبر مشكلةً كبرى حائلة دون الدخول في حضارة العالم والعصر. وإنما اختلفت مناهجهم أو طرائقهم في تحرير الموروث أو التحرر من تأثيراته. وقد كانت للراحل أركون منذ البداية طريقته الخاصّة في إنجاز الأمرين: التحرر من الموروث، والدخول في الحداثة الثقافية والفكرية. أدرك أركون ماسينيون ولاووست وكوربان وكاهن وأرنالديز وبيرك ورودنسون. لكنه عرف الحداثة الفرنسية جيداً أيضاً، من مثل ميشل فوكو وستراوس ولاكان ومدرسة الحوليات (Annales) وباشلار وبروست وغوشيه وكلاستر وآخرين كثيرين ما بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي. وقد دخل في الحداثة الاستشراقية الفرنسية (حقبة ما بعد ماسينيون) عندما اختار للدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية موضوعاً عن الأنسنة في الفكر الإسلامي القديم، متخذاً من نصوص مسكويه في التاريخ والأخلاق، نموذجاً لذاك التيار الإنسانوي في القرنين الرابع والخامس للهجرة. لكنه ما تلبّث هناك أكثر من عشر سنوات. إذ تحت تأثير ثورة الطلاب في عام 1968، مضى أركون قُدُماً في مطالعة الإبستمولوجيات ومنجزات ثورة العلوم الاجتماعية والإنسانيات والألسُنية. وفي أواسط السبعينيات بدأ يتحدث عن "الإسلاميات التطبيقية" رافضاً تاريخانيات المستشرقين وفيلولوجياتهم. وتطبيقيات أركون هي في الحقيقة تطبيقيات بنيوية تدور حول النصوص وإعادة القراءة والمُراجعة بأدوات الإبستمولوجيات الجديدة في "حفريات" فوكو، وإنسانويات مدرسة libre وكسر أختام "سحر العالم" منذ فيبر إلى غوشيه. والواقع أنه في هذه المرحلة من تطوره الفكري، أقبل على تجريب بعض التطبيقات على منهجه فقرأ بعض السُوَر القرآنية "قراءة ثانية"، وكتب برامجَ للخروج من أَسْر الموروث عبر القراءات الثواني، وعبر "الحفريات" في اللامفكَّر فيه بحسب تعبيره. وقد أراد الرجل التمييز بين التأويل كما عرفته تياراتٌ فكريةٌ في أزمنة الإسلام الكلاسيكية، وبين القراءات الثواني؛ بأنّ التأويل إنما يتناول ما يُعرف بباطن النصّ أو غير المتبادر منه لأول وهلةٍ بحسب اللغة ومباحث الألفاظ؛ بينما تهدف القراءات الثواني إلى اقتحام اللامفكَّر فيه بسبب استيلاء المسلَّمات والدوغمائيات على نصوص الإسلام الكلاسيكي وعقائده. ومنذ أواخر الثمانينيات، سيطرت على أركون فكرة مواجهة الدوغمائيات والانسدادات في الموروث الإسلامي الكلاسيكي، منذ البعثة النبوية وإلى القرنين الخامس والسادس للهجرة عندما سيطرت الأرثوذكسيات التي ينبغي أن ينصرف الجهدُ النظري والعملي لتحطيمها لكي يتحرر العقل الإسلامي، وينفتح على الدخول في الحداثة والمعاصرة. وقد استند أركون فيما توصَّل إليه من تشخيصٍ إلى هذه النتيجة أو المقولة، لما كان يستمعُ إليه ويقرؤه من خطابات الإسلاميين المتشدّدين المُعاصرين، والذين يعودون إلى نصوصٍ قرآنيةٍ، ونصوص أُخرى مختارة من مؤلفي الكلاسيكيات الإسلامية في الفقه والعقائد والتاريخ، وحتّى الفلسفة. وهكذا تحول الرجل من ناقدٍ لمناهج المستشرقين والمسلمين في قراءة التراث وفهمه، إلى مُناضلٍ من أجل "تحرير" العقل الإسلامي المعاصر من التُراثيات التي جمَّدَتْهُ وعطّلتْهُ، وحالت بينه وبين اكتشاف معارف الحداثة ومُنجزاتها وتقبُّلها. وهكذا دأب، وطوال أكثر من عشرين عاماً، على تكرار البرامج قولاً وكتابةً، والتي ينبغي تطبيقُها ضد الأرثوذكسية السُنّية على الخصوص، وتكرار المقالات في مساوئ الدوغمائيات الحائلة دون الحداثة، وتكرار الخوض في محاسن العلمانية وكيف دخلت أوروبا فيها فنجت وأنْجَت العالَم. ولأنه طيّبٌ وبريءٌ ومستقيم؛ فإنه ما استطاع تجاهُل المتغيِّرات الغربية وما اتّصل منها بصعود اليمينيات والخصوصيات ضد الإسلام والمسلمين؛ فانصرف أحياناً لنقد "العنصريات العلمانية" أو التي تدّعي العملَ باسمها، واستنهض تفكيراً مسيحياً يتلاقى مع ليبراليةٍ إسلاميةٍ بازغةٍ ضمن مقولة الديانات الإبراهيمية. بيد أنه وهو يفعلُ ذلك؛ فإنّ نضاليته ضد الأصوليات القديمة والحديثة لم تفارقْهُ، فرأى أنّ المسلمين ليسوا مهيئين للحوار مع المسيحية المعاصرة والعالم، تارةً لأنهم لم يتنسموا رائحة الحداثة، وطوراً لأنهم ما دخلوا في غمار" الإصلاح الديني العظيم" الذي دخل فيه المسيحيون منذ القرن السادس عشر. قاد النزوع النضاليُّ إذن أركون إلى اعتبار أنّ المشكلة تكمن في الموروث وفي أُصول الإسلام. وأنّ الأمر -شأن ما فعله الأوروبيون- ينبغي أن يبدأ من هناك، لتحرير المسلمين المعاصرين من أُصولياتهم المؤسَّسة على النصوص. وعندما تعرف وتصادق مع الشاعر أدونيس الذي هاجر إلى باريس في الثمانينيات، استجدَّ لديه همٌّ جديد. فأدونيس -باعتباره شاعراً يملك حاسّةً تخييليةً ورمزيةً عالية- شديد الإعجاب بنظْم القرآن وشعريته، لذلك فقد أَقنع أركون أنّ العملية ذات طرفين أو طريقين: فالقرآن أَسر العربَ الأوائل، لكنّ "الديموغرافية الإسلامية الشاسعة" إنما تأْسِرُ أو ترتهنُ القرآن ذاتَه، وتحولُ دون قراءته مجدداً من جانب النُخَب المثقفة. فالمطلوب إذن ليس تحرير المسلمين من الأرثوذكسيات وحسْب؛ بل وتحرير النصّ القرآني نفسه من إرغامات الكثرة الإسلامية الخانقة! وقد ناقشت ُالأستاذ أركون ثلاث مراتٍ على الأقلّ، نقاشاً كان يطول لساعاتٍ، وأهمُّ موضوعاته أمران: الهُجاس لديه ولدى كبار المثقفين العرب المُعاصرين بالموروث الديني، ووقوعه مثل الأُصوليين في إسار التأصيل، أي اعتباره أنّ علاج المشكلات الإسلامية المُعاصرة إنما يتمُّ بالتعامل التحطيمي مع ذاك الموروث؛ في حين يرى الأصوليون أنّ المشكلة الإسلامية الحديثة والمعاصرة إنما تنحلُّ بالعودة إلى ذاك الموروث واتخاذه مرجعيةً في سائر الشؤون. والذي أراه وقلتْه له -بإيجاز هنا- أنّ الموروث الثقافي في الأصل ليس ميزةً ولا مشكلة، وإنما هو تاريخٌ للفكر ينبغي معالجته بالمناهج المُعاصرة. أمّا الإسلاميون فلا علاقة لأُطروحاتهم بالموروث بالفعل؛ بل هو وعي وردود أفعال على مشكلات الحاضر، يقوّون حجيتهم فيها بتوظيف النصوص المقدَّسة في أُطروحاتهم. واقتنع أركون بخطل التأصيل لديه ولدى الأًصوليين، وكتب في ذلك مقالةً طويلةً صارت فيما بعد كتاباً. لكنه ما اقتنع بالتخلّي عن مصارعة الأرثوذكسيات لأنه لا علاقة لها بمشكلاتنا الاقتصادية والسياسية والفكرية وحتى الدينية المُعاصرة! فقد قال لي قبل شهور: حتى لو كان رأيك صحيحاً في أنّ الأرثوذكسيات والدوغمائيات الكلاسيكية، ليست مسؤولةً عن مشكلاتنا الثقافية والدينية والسياسية المُعاصرة؛ فإنّ الإصلاح الديني ضروري لتحرير عقولنا ودنيانا منها! هدأ أركون بعضَ الشيء في العقد الأخير من السنين. وقد استند هدوؤه -مثل ثورانه- إلى أدبياتٍ أوروبيةٍ وغربيةٍ جديدة في اعتبار النصّ الديني وقراءات الموروث. وخفّت الجدالياتُ بينه وبين الجابري، فعاد لاعتبار الشاطبي وابن رشد وابن خلدون. وظلَّ على وتيرةٍ عاليةٍ في الاطّلاع على الجديد وعرضه ونقده. وظلَّ قبل ذلك وبعده على براءته التي لا تداخلُها الأحقادُ ولا حبُّ الزعامة والريادة.