صدر تقرير مؤخراً من وزارة الدفاع الأميركية قدرت فيه احتياطيات أفغانستان من الحديد والنحاس والكوبالت والذهب وغيرها من المعادن الاستراتيجية الأخرى بما يقارب التريليون دولار. وليست أفغانستان وحدها في هذا الثراء غير المنظور. فحتى زيمبابوي التي تعتبر من أفقر دول العالم على الإطلاق ، تستطيع اعتلاء قمة كبريات الدول المنتجة للماس، على حد ما أعلنته الأمم المتحدة في تقرير لها نشرته مؤخراً. وقد تحمل مثل هذه الأخبار بعض الأمل والتفاؤل لدى البعض. غير أن أمثلة محدودة تكاد لا تذكر، يمكن الإشارة فيها إلى دول سادها الأمن والسلام والازدهار الاقتصادي بسبب غناها بالمعادن الطبيعية. وعلى نقيض ذلك تماماً، فقد رأينا كيف أسهمت ثروة الذهب وغيرها من المعادن النفيسة الأخرى في تمويل النزاعات الطويلة الممتدة في دولة مثل الكونجو. أما في جارتها نيجيريا فقد اغتنى الساسة من موارد النفط الوطني بينما أفقرت غالبية السكان في المقابل. ولم تسهم ثروة النفط هناك إلا في توفير عدد ضئيل من الوظائف للأهالي المحليين. ومثلها في سيراليون، فقد سخرت موارد الماس هناك في تمويل أنشطة عصابات الجريمة المنظمة والعنف القبلي المحلي، حتى أطلقت على ثروة الماس السيرلايوني تسمية "الماس الدموي". وفيما لو بدأت الدول النامية النظر إلى الموارد الطبيعية باعتبارها وسيلة لكسر دائرة الفقر والعنف في مجتمعاتها، فلا شك أن هذه نظرة إيجابية تدعو للتفاؤل. غير أن ذلك لا ينفي حقيقة النظر إلى الموارد الخطأ دائماً. ذلك أن دراسة حديثة أصدرها مركز New American Security تناولت الآثار السلبية الناشئة عن ظواهر التدهور البيئي والفقر والهجرة والنزاعات وضعف المؤسسات المجتمعية والدول الفاشلة على حياة مجتمعات الدول النامية. وتوصلت الدراسة إلى أن لنقص وتدهور الموارد الطبيعية "الخضراء" -مثل الغابات والمياه العذبة والثروات السمكية والتربة الخصبة الصالحة للزراعة- دوراً كبيراً جداً في نشوب النزاعات والقلاقل الأمنية التي تشهدها تلك المجتمعات. ومما أشارت إليه الدراسة في هذا السياق أن حصول المجتمعات النامية على ثروات أكبر من الموارد الطبيعية الخضراء، ربما يكون أفيد لأمنها واستقرارها من امتلاكها لثروات الليثيوم والذهب والماس. وبالنظر إلى تعقيد طبيعة النزاعات نفسها، فليس في مقدور التدهور البيئي أن يؤدي حتماً وتلقائياً إلى نشوب النزاعات. بيد أن هناك من الأدلة ما يكفي على إمكانية حدوث النزاعات وصولاً إلى نموذج الدولة الفاشلة نفسها، جراء الفقر واليأس ونزوح وتشرد المجتمعات، نتيجة لاستنزاف الموارد الخضراء التي تدعم حياة المجتمعات. ووفقاً لتحليل منسوب للأمم المتحدة، فقد أسهم تدهور الغابات والثروات السمكية والمياه العذبة أو التربة في حدوث أحد عشر نزاعاً رئيسياً اتسم بالعنف منذ عام 1990. وفي الوقت الذي تتجاهل فيه وسائل الإعلام الأميركية هذه الصلة الوثيقة بين النزاعات والتدهور البيئي، فإن من المؤكد أن للتدهور البيئي دوراً رئيسياً في اندلاع الكثير من النزاعات المضرة بالمصالح الحيوية الأميركية في مختلف أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، أشار التقرير المذكور -الصادر عن مركز الأمن الأميركي الجديد- إلى كيف أسهم تدهور ونقص الثروات السمكية في تحول الصيادين الصوماليين إلى قراصنة. وقد تطلب هذا التحول الأمني الاقتصادي الخطير وجوداً أميركياً أكبر في منطقة القرن الأفريقي. والشيء نفسه يجعل من المنطقي تحول ولاءات فقراء الفلاحين الأفغان بسبب التهديد الذي طال نسبة 75 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة سابقاً إلى مساحات صحراوية جرداء، بسبب انجراف التربة وتأثيرات الزحف الصحراوي. وهناك ثلاثة أسباب قوية تدفعنا للقول إن في حماية الثروات الطبيعية الخضراء ما يعد المجتمعات في الدول النامية بالمزيد من الأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي، أكثر مما تفعل حماية الثروات المعدنية مثل الذهب والليثيوم والماس. أولها ديمقراطية واسعة المشاركة الاجتماعية في اقتسام منافع الموارد الطبيعية الخضراء، مقارنة بممارسات الاحتكار التي تتسم بها عادة ملكية المعادن النفيسة والاستفادة من خيراتها ومنافعها. فالمعروف أن الأقليات أو الشركات الخاصة أو الدول الأجنبية -في بعض الحالات- هي التي تسيطر سيطرة تامة على المعادن النفيسة وتوزيع فوائدها. ثانياً، تتطلب حماية الموارد البيئية الخضراء مشاركة اجتماعية أوسع وقدراً كبيراً من الانفتاح. وعليه فليس ثمة غرابة في أن تكون المجالس والجمعيات ذات الصلة بإدارة الغابات المحلية وموارد المياه، المؤسسات الديمقراطية الوحيدة في ظل النظم الشمولية التي لا تتسم بأي قدر من الديمقراطية. أما السبب الثالث والأخير، فيتلخص في محدودية الثروات المعدنية وكونها آيلة للنفاد في نهاية الأمر مهما كثر احتياطياتها. وعلى عكس ذلك تماماً الموارد الطبيعية الخضراء التي تتسم بالاستدامة والقدرة المستمرة على العطاء، متى ما تم ترشيد استهلاكها وحمايتها بالحكمة اللازمة لسد حاجة أجيال المستقبل. أما الموارد المعدنية فغالباً ما يؤدي نفادها إلى نشوء ما يعرف بعقلية "التكالب على الذهب" التي شهدتها دول كثيرة بما فيها الولايات المتحدة الأميركية. عليه، فليس ثمة غرابة في أن تحقق بعض الدول النامية التي انتهجت طريقاً للتنمية قوامه الاعتماد على الموارد الطبيعية الخضراء وترشيد استهلاكها وحمايتها، قدراً أكبر من النمو الاقتصادي والاستقرار الأمني الاجتماعي، مقارنة بالدول المجاورة التي حاولت الاعتماد على موارد النفط والثروات المعدنية. تحديداً يمكن القول إن دولاً مثل كوستاريكا وبوتسوانا -وغيرهما من الدول التي عولت على تنمية الموارد الطبيعية الخضراء- تحولت خلال السنوات الأخيرة الماضية إلى واحات للأمن والسلام الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، مقابل دول أخرى مثل سيراليون التي تحولت نعمة الماس فيها إلى نقمة اقتصادية اجتماعية. أنتوني زيني جنرال بحري متقاعد وقائد سابق للقيادة الوسطى الأميركية ينشر بترتيب مع خدمة "إم..سي..تي." انترناشونال