في التاسع من شهر سبتمبر الجاري نشر في كبريات الصحف البريطانية خبر موجز عن استقالة "سير شيرارد كاوبر -كولز" من منصب الممثل البريطاني الخاص لأفغانستان وباكستان عقب قضائه إجازة مفتوحة استمرت لثلاثة شهور. ويقول لي حدسي إن السبب الرئيسي وراء استقالته هو الخلاف الذي حدث بينه وبين نظيره الأميركي ريتشارد هولبروك بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع عبر التفاوض مع حركة "طالبان". وكنت قد التقيت السير شيرارد للمرة الأولى بمركز المؤتمرات بوزارة الخارجية في مقره القريب من ساوث داونز، وكان حينها يعمل سكرتيراً خاصاً أول لوزير الخارجية روبن كوك، ووجدت فيه شخصية مرحة وعلى قدر كبير من الثقة بالنفس. وكان كل ما فيه يدل على كونه الشخص المناسب تماماً لتولي المهام الدبلوماسية الشائكة. وعمل خلال الفترة بين 2001 و2003 سفيراً لدى إسرائيل قبل انتقاله للعمل سفيراً لبلاده في المملكة العربية السعودية. ثم انتقل في عام 2007 للعمل في أفغانستان. وأثناء حضوره لموكب احتفالي ضخم هناك، جرت محاولة استهدفت قتل كرزاي، ما دفع الحرس الخاص لشيرارد للإسراع بتأمين حياته في مظلة كبار الشخصيات التي كان يجلس فيها. وفي الثاني من سبتمبر الجاري عقد شيرارد اجتماعاً خاصاً مع نائب السفير الفرنسي في كابول، رسم فيه صورة واقعية وشديدة التشاؤم للوضع الأمني السياسي في العاصمة الأفغانية. ومن جانبه سارع الدبلوماسي الفرنسي بإرسال رسالة مشفّرة عما دار في ذلك الاجتماع الخاص إلى رئيس بلاده، فعثر على نسخة غير مشفرة منها لصحفي فرنسي فنشرها في صحيفة Le Canard Enchaine. وبينما نشر عن ذلك اللقاء أن شيرارد أخبر الدبلوماسي الفرنسي عن سوء الأحوال الراهنة، وعن تدهور الوضع الأمني من سيئ إلى أسوأ، وعن حال الفساد الحكومي، وفقدان السلطة للثقة فيها بين المواطنين. وقال له "إن القوات الأجنبية تساند بقاء نظام آيل للانهيار من تلقاء نفسه. كما تعمل هذه القوات على إبطاء وتعقيد خروج حتمي من الأزمة التي هي فيها، مع ترجيح أن يكون هذا الخروج كارثياً في نهاية الأمر". وفي الاجتماع نفسه تفهّم سير شيرارد أهمية دعم بلاده للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان. لكنه علق قائلا: "بيد أنه ينبغي علينا أن نعلمهم -الأميركيين- بأن علينا (نحن البريطانيين) أن نكون جزءاً من استراتيجية ناجحة وليست فاشلة. فيقيناً أن الاستراتيجية الأميركية مصيرها الفشل". وأعتقد بصحة ما اعتقده شيرارد، غير أن دبلوماسياً بريطانياً محرجاً مما حدث، صرح قائلاً هنا في لندن: "إن معضلة المبعوث البريطاني الخاص أنه عرف بتشاؤمه المفرط بسير الأوضاع هناك في أفغانستان، رغم أنها ليست بالسوء الذي وصفه". لكني أتساءل عما إذا كان هذا الدبلوماسي المحرج من سلوك زميله في كابول الآن، سوف يظل على موقفه هذا بعد مرور عامين من الأحداث والتطورات الأمنية السياسية في العاصمة الأفغانية؟ صحيح أن أوباما أعرب عن نواياه بإرسال قوة عسكرية إضافية إلى أفغانستان، قوامها 30 ألف جندي. لكنه عبّر عن أمله في سحب بعض هذه القوات بحلول صيف العام المقبل. وحتى الآن لم تلح أي مؤشرات تذكر على احتمال نجاح كبير للقوات الأميركية في إحراز تقدم عسكري على قوات "طالبان" في محافظة قندهار. والحقيقة أن الوقت يمر لصالح المتمردين الذين يدركون عزم القوات الكندية على مغادرة أفغانستان، لتلحق بها القوات الهولندية مباشرة. بل تبلغ نسبة المواطنين البريطانيين الذين يؤيدون انسحاب قوات بلادهم من هناك، حوالي 70 في المئة، مع العلم أن بريطانيا تسهم بثاني أكبر قوة دولية مرابطة في أفغانستان، بعد القوات الأميركية مباشرة! ومما لا شك فيه أن شيرارد قد واجه صعوبات كبيرة في التعامل مع نظيره الأميركي، هولبروك، الذي عينه أوباما مبعوثاً خاصاً له في كل من أفغانستان وباكستان، على خلفية نجاحه في التفاوض من أجل حل النزاع الدموي في جمهورية يوغسلافيا السابقة. وينظر إلى هولبروك على أنه مفاوض قوي الشكيمة، لكنه صلف متعجرف في الوقت نفسه. كما أن صلته بكرزاي ضعيفة للغاية، وتعرض أداؤه لمهمته الأفغانية -الباكستانية لانتقادات حادة من الصحافة الأميركية. ويذكر أن إدارة أوباما تخطط لتوجيه صفعة عسكرية قوية لقوات "طالبان" قبل أن تبدأ قوات التحالف انسحابها التدريجي من أفغانستان. غير أن سير شيرارد -الذي يبدو أنه انتصر لوجهة نظره الخاصة في أروقة وزارة خارجية بلاده- يتشكك كثيراً فيما إذا كان لدى واشنطن وحلفائها الغربيين في "الناتو" من الوقت ما يكفي لإحراز نصر عسكري حاسم على قوات "طالبان". وعليه فقد قابلت وزارة الخارجية البريطانية نداء كرزاي بالتفاوض مع "طالبان" بترحيب حار عبْر بيان نشرته الوزارة قالت فيه: "ليس في الإمكان تحقيق قدر أكبر من الأمن والاستقرار في أفغانستان بالوسائل العسكرية وحدها. ويقوم قرار الرئيس كرزاي على النجاح الذي حققه مجلس اللويوجيرقا الاستشاري السلمي وما توصل إليه مؤتمر كابول الأخير. ثم إن للنداء الرئاسي جذوره في رغبة الشعب الأفغاني في التوصل إلى حل سلمي عبر التفاوض. ولطالما قلنا بضرورة العملية السلمية لوضع حد للنزاع الأفغاني". وعلى سبيل المثال، فقد طالت المفاوضات بين الأجهزة الاستخباراتية وقادة الجيش الجمهوري الآيرلندي قبل مدة طويلة سابقة لدخول الساسة والدبلوماسيين إلى حلبة المفاوضات والحل السلمي للنزاع. وأحسب أن الأمر نفسه يجري الآن بين الأجهزة الاستخباراتية وقادة "طالبان". وآمل ألا يقاطع الأميركيون عملية التفاوض السلمي مع الحركة لوضع حد للنزاع الأفغاني. بيد أن هناك ثلاث رسائل لابد من توصيلها لقادة "طالبان"؛ أولاها أنه ليس في مستطاع قوات حلف "الناتو" إحراز نصر عسكري حاسم على حركتهم. وثانيتها أنه لن يكون في وسع الحركة استعادة سيطرتها على العاصمة كابول في ظل النمو الكبير في عدد وقدرات أفراد الجيش الأفغاني. أما الرسالة الثالثة فمفادها أن المفاوضات هي الطريق الأقصر والأسرع لخروج القوات الأجنبية من أفغانستان.